بقلم: داليا شمس
تفرحني ضحكة الجمهور من حولي، لكن أحاول أن أفهم سببها. طبعا الأذواق تختلف وتحترم، لكن العجيب أنه لا أحد يتوقف لدراستها. لا أحد يحلل صعود أسماء بذاتها أو ظواهر كوميدية بعينها رغم فجاجتها أحيانا. الفنون وعلى رأسها المسرح، بحكم طبيعته التفاعلية المباشرة وعراقته وشكله الذي ارتبط بالحلبة السياسية، توصف دائما بأنها مرآة المجتمع، أليس لديكم فضولا لمعرفة ما حدث من خلال متابعتها؟
ليس من باب التعالي لكن رغبة في الفهم، ربما أيضا بدافع الملل من أن أظل الوحيدة أو من القلائل الذين لا يضحكون في القاعة، بل يتأففون من طول العرض وعدم إشباعه للمتعة بداخلي. لماذا يهلل الناس لشيء ما، ويقبلون عليه لأشهر، ثم تذهب لرؤيته فتصاب بخيبة الأمل؟
***
أسعار بعض التذاكر التي تتراوح بين الألف والألفي جنيه للتذكرة الواحدة، وتعلن العروض كامل العدد أو تنفذ الأماكن فور فتح باب الحجز، رغم أن العرض مسرحي كلاسيكي أو أن الحفلات الغنائية مكررة لا تحمل جديدا، فقط لأنها تشمل بعض الأسماء الكبرى والرنانة.. أليست جديرة بأن تستوقفنا؟ هل يضحك الناس لأنهم قرروا الخروج والانبساط؟ هل لأن الضحك "عدوى"؟ هل لأنهم بحاجة ماسة إليه؟ هل لأن لم ينسجم من العرض يفضل ألا يجاهر برأيه فيخالف القطيع؟ هل هناك طبقة تسعى فقط إلى أن تتفاخر بأنها كانت بالأمس في حفلة فلان أو حضرت المسرحية الفلانية فتتظاهر بالثقافة وتعلن أنها كانت في قلب الحدث؟ هل هناك جماهير مختلفة تتكون على أطراف العاصمة القاهرة سواء في العشوائيات أو في الكومباوند، وهي تفرض أجندتها حاليا وتؤكد وجودها؟ هل انتهت في مصر فكرة الفن الذي يسعى لتغيير رؤية الفرد للعالم من حوله وتحفيزه على التفكير واكتشاف الجديد؟ هل الجهات التي تمولها الدولة صارت أدوارها لا تختلف كثيرا عن أخرى تجارية بحتة؟ ما تأثير عصر الرقمنة على جماهير المنتج الثقافي؟ كيف غيرت وسائل التواصل الاجتماعي في تركيبة جمهور فنان بعينه فلم يعد قاصرا على أوساط المثقفين؟ وكيف تفرز الميديا الجديدة فنانين مختلفين؟
***
الأسئلة تتدافع إلى ذهني، ولكي أصل لأجوبة شافية أحتاج إلى أرقام وإحصائيات توفر بعض المؤشرات والمعطيات، وهي لا توجد بشكل مرضي في مصر والعالم العربي. في حين منذ أوائل القرن الماضي وعلماء الاجتماع في الغرب يعكفون على تحليل الممارسات الثقافية للجماهير وصار هناك منذ فترة ليست بالقصيرة ما يسمى بدراسات التلقي ودراسات الاستهلاك الثقافي، ونحن عن هذا وذاك غائبون. ومنذ بداية الألفية الثانية حاول الباحثون، أيضا في الغرب، أن يجيبوا على التساؤلات الخاصة بتغير أنماط الاستهلاك الثقافي في ظل جلوس الأفراد لفترات طويلة أمام شاشات الكمبيوتر، ورأوا أنه في مكان ما لم يؤثر سلبا على وتيرة تردد الجماهير على أماكن الترفيه التقليدية كالمسرح والسينما، فهو لم يستقطع من وقتها.
وبالطبع عندما نسعى لرسم بورتريه للجماهير الحالية، لا يتم ذلك بمعزل عن طبيعة الأماكن التي يترددون عليها والمنتج الذي يجتمعون حوله. أيضا تهتم دراسات التلقي بردود الأفعال المتباينة تجاه العمل الواحد وما الذي تصنعه بها الجماهير المختلفة؟ ففي بعض الأحيان يحولها الجمهور عن مسارها، وتكون المفاجآت. الدراسات المعمقة للجماهير وتاريخها وتطورها تمكننا من سماع صوتها وتسمح بوجود بنية ثقافية حقيقية ورسم سياسات واضحة في هذا المجال، كما في غيره أيضا. لطيف أن يدرس طلبة علوم الاجتماع والإعلام نشأة المسرح والصحافة على أيدي الشوام، ويقارنون البيئات المختلفة، لكن من المهم أيضا تحليل الظواهر الحالية بعمق، في محاولة للفهم. لأننا مثلا لو حاولنا في مصر تطبيق مقولات سائدة مفادها أن التقدم الذي طال أثينا قديما، والتخلف الذي طال إسبرطة، كان بفعل الحضور الواسع للمسرح الأثيني، فضلا عن بقية الأعمال الفنية والأدبية التي برع فيها الأثينيون، ستكون النتيجة كارثة مدوية.