بقلم: داليا شمس
داخل بعض عائلاتنا تكثر الأساطير. تردد مثلا الخالات أو العمات أن جدهن الأكبر أتى من القوقاز أو تركيا أو بلاد الشام، قبل ألف عام واستقر هنا وصار شهبندر التجار. وتغذي حكايات العجائز في أحيان أخرى حلم الأبناء في استرجاع وقف الظاهر بيبرس الذي ارتبط بتاريخ أسرتهم، وفي هذه الحال سيتبدل اليأس بالأمل. ومعظمها أساطير قابلة للتصديق سواء لأننا نريد ذلك، أو لأننا بالفعل في بلد مر به الكثير والكثيرون، أو لأن لدينا ولع بمعرفة أصولنا، كما لو أننا نطمئن أنفسنا بمنطق: "نحن لا نعرف بالضبط إلى أين نمضي، لكننا نعلم من أين جئنا".
مؤخرا صارت هذه الحكايات التي تشبه حواديت المارد ومصباح علاء الدين بها شيء من الواقع، فاكتشفت مثلا إحداهن بعد إجراء اختبار الحمض النووي (دي إن إيه) أن أصولها ترجع لسلالة الفايكنج، كما أثبت آخر وهو في الثلاثين من عمره أنه الوريث الوحيد لقصر إنجليزي منيف في جنوب غرب بريطانيا، تصل قيمته إلى 57 مليون يورو، وأنه بين ليلة وضحاها لم يعد ينتمي لطبقة الكادحين. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، كانت هدية أخ لأخته بمناسبة عيد ميلادها السادس والخمسين هي تكاليف تحليل الحمض النووي لمعرفة الأصل، من باب التسلية وحب الاستطلاع، فوفقا لإحصاءات مجلة "أم أي تي تكنولوجي ريفيو" يعد الأمريكان هم الأكثر إقبالا على مثل هذه الاختبارات، بل وتقدر المجلة أنه لو سارت الأمور على هذه الوتيرة سيصل عدد من أجروا الفحص إلى حوالي مائة مليون أمريكي خلال عامين من الآن، في مقابل 26 مليون شخص حاليا.
اتصلت مندوبة الشركة المتخصصة بالأخت لتبلغها بنتيجة فحص اللعاب، الذي أجرته قبل عدة أسابيع، موضحة أنها على ما يبدو لا تنتمي هي وأخوها للأب نفسه، بل هما من أبوين مختلفين.. لم يعلم أحد بهذا السر، إلى أن بين التحليل أنهما لا يشتركا بالمرة في جينات عائلة الأب. نظرت إلى وجهها في المرآة وانفجرت بالبكاء.
***
يمكننا أن نتخيل حجم المفارقات والمفاجآت التي قد تحدث من تحت رأس هذه الاختبارات التي انخفضت تكاليفها بشكل ملحوظ، فلم تعد تتجاوز المائة دولار، مع وجود عروض ترويجية على الإنترنت، من خلال مواقع الخمس شركات الكبرى المتخصصة في هذا المجال، فالشخص المهتم يمكنه بخطوات بسيطة أن يدخل البيانات اللازمة والدفع لشراء طقم حفظ عينة اللعاب الخاصة به التي تصله إلى المنزل، ليرسلها بعد ذلك إلى الشركة ويحصل على النتيجة خلال شهر أو ثمانية أسابيع على الأكثر. ويقرر صاحب الاختبار إذا كان يريد أن ترسل بياناته لأقربائه المحتملين، الذين سجلوا أسماءهم أيضا عند إجراء فحوصات مماثلة، في سائر أنحاء العالم، فهذه الشركات لديها قاعدة بيانات عريضة تسمح بتشبيك "الأقارب المجهولين"، إذا ما أرادوا، علما بأن بعض الدول لم تقنن بعد مثل هذه الاختبارات ولا تسمح بها، بل تفرض عليها غرامات، سواء بسبب التشكيك في دقة النتائج أو الخوف من تبعاتها الطبية والدوائية.
بخلاف حجم الحكايات والأسرار والصلات التي قد تفوق الخيال، والجانب المبهر المتعلق بمعرفة الأصل والفصل والجذور التاريخية والأعراق والانتماء الجغرافي، والجانب الذي يسمح بالكشف المبكر عن إمكانية الإصابة بأمراض بعينها مثل الزهايمر والباركنسون والسرطان، إلا أن فكرة وجود خريطة لجينات الكوكب بين أيدي شركات كبرى تسيطر على السوق العالمي مخيفة ومريبة.
***
الشركات الكبرى هي Ancestry و23&Me وFamily Tree DNA وLiving DNA وMyHeritage. الثلاث شركات الأولى أمريكية، والرابعة أوروبية مقرها في إنجلترا ومعاملها موجودة في ألمانيا، والخامسة إسرائيلية، وقد وصل حجم أعمال هذه الأخيرة في هذا القطاع فقط إلى سبعين مليون دولار خلال العام الماضي. تعتمد هذه الشركات على تقنية التنميط الجيني لتحليل الحمض النووي، وبعد الانتهاء من التحليل تقوم خوارزمية خاصة بالشركة بمعالجة النتائج لتحديد الأصول العرقية والمنطقة الجغرافية التي يرجع إليها الشخص، وتتكون قاعدة بيانات لا نعرف بالضرورة فيما ستستخدم مستقبليا بالضبط. ورغم كل التطمينات والـتأكيدات من قبل هذه الشركات على سرية البيانات، إلا أن شركة 23&Me التابعة لشركة جوجل قد باعت في عام 2015 بيانات 650 ألف شخص من عملائها لشركة فايزر، ثم باعت مؤخرا المعلومات الخاصة بخمسة مليون شخص إلى واحدة من كبرى شركات الأدوية البريطانية وهي Glaxo Smith Kline، بمبلغ وقدره ثلاثمائة مليون دولار، بحسب ما ذكرته الصحف الأجنبية. كما تعرضت قاعدة البيانات الخاصة بشركة MyHeritage لعملية قرصنة في يونيو 2018، اخترقت خلالها الأرقام السرية والإيميلات الخاصة ب92 مستخدم. وقبلها كانت أنباء قد ترددت حول تسريب إحدى الشركات، التي تم إغلاقها، لبيانات عملائها إلى جهات أمنية بهدف مواجهة الجريمة والقبض على مجرمين هاربين.
يقال إن بعض هذه الشركات المتخصصة في اختبارات الحمض النووي كان وراء تأسيسها عدد من الشخصيات الأمريكية من أصول إفريقية، كان أهلهم من العبيد الذين سيقوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لذا اهتموا بالبحث عن الجذور وتنوع الأعراق. كذلك من ضمن ما تبينه هذه الفحوص، على ما يبدو، كون الشخص من أصول يهودية أم لا، وكأن للدين جينات خاصة.. فكل منا قد يأخذ بالنتائج في الجهة التي يريد، فإذا كان من مناهضي العنصرية سيحاول إثبات أن البشر تربطهم العديد من الصلات رغم تباينهم، أما الفاشيون فسيؤكدون على نقائهم العرقي، وربما سيصاب بعضهم بالخيبة عندما يكتشف أنه لا ينتمي كليا للفصيل الذي يفتخر به. ولن تنتهي المفاجآت.