بقلم : داليا شمس
ذكاء وعمق وخفة دم متناهية وشغف.. لا نشعر بمرور ساعة ونصف، وهي مدة الفيلم التسجيلي السوداني "حديث عن الأشجار". المخرج صهيب قسم الباري، 40 سنة، يمتلك أدواته تماما، دون سفسطة أو ادعاء. برع في قيادة أربعة مخرجين سودانيين آخرين من أجيال مختلفة، كانوا من أوائل من درس السينما في مصر وألمانيا وروسيا، وحازت أفلامهم في عقود منتصف القرن الماضي المتتالية على جوائز مهرجانات عالمية، حتى أصاب الموت السريري السينما السودانية بعد انقلاب 1989، وهي عادة مؤشر جيد على ما تمر به البلاد. تبدلت الأحوال مع صعود الإسلاميين أو على حد وصف أحد الأبطال لحال السينما في بلاده "البطل قتله الخائن، ولم يكن موته طبيعيا".
طوال الوقت نتابع مشاغبات المخرجين الأربعة الكبار: إبراهيم شداد، سليمان محمد إبراهيم، منار صديق، الطيب المهدي. السينما وأزمتها وولعهم بها وحدت مصائرهم. سويا يديرون جمعية الفيلم السوداني بمدينة أم درمان حيث تدور الأحداث. يفعلون ما بوسعهم ليعرضوا للناس أفلاما بالمجان، ثم يفكرون في تجديد أحد دور العرض المهملة. يقع اختيارهم على "سينما الثورة" القديمة، ويجاهدون للحصول على التصاريح اللازمة من الجهات الحكومية والأمنية المختلفة التي لا ترغب في وجود سينما ولا جمهور يتابعها.
طوال الوقت أيضا تكون هناك إشارات لأفلام كلاسيكية تربى عليها هؤلاء المخرجين الكبار، يحفظون الحوارات ويقلدون الممثلين الأصليين. حواراتهم تدل بالطبع على ثقافة واسعة وسخط على الأوضاع القائمة. يتهكمون على كل شيء بروح دعابة سودانية بسيطة ولاذعة: صوت الآذان العالي الصادر عن خمسة جوامع جنب بعضها البعض وكأن المصلين طرشان، تسلسل التاريخ السياسي للسودان " كولونيالية، ثلاث ديمقراطيات وثلاث عصور ديكتاتورية"، الرئيس عمر البشير ينجح في انتخابات 2015 بنسبة 94.5 % من الأصوات... الزمن الذي اختاره المخرج للفيلم هو سنة 2015، وإن كان التصوير قد استمر بشكل متقطع إلى عام 2017، كما أفاد المخرج والأبطال الذين حضروا العرض العربي الأول للفيلم بمهرجان الجونة وحصلوا على النجمة الذهبية لأفضل وثائقي طويل، وذلك بعد أن حاز فيلمهم على جائزة مهرجان برلين لبانوراما الوثائقي وجائزة مجلة "فاريتي" الشرق الأوسط.
***
حكوا كيف تعرف عليهم المخرج صهيب قسم الباري، الذي عاش في السودان حتى السادسة عشر من عمره، ثم سافر لدراسة السينما بفرنسا في جامعة باريس 8. عند عودته للسودان كان يرغب في تصوير فيلمه الروائي الأول، لكن مشروعه تعثر ووقع على فريق جمعية الفيلم من المخرجين الرائعين وقرر أن يصنع فيلما تسجيليا مستلهما من تجربتهم. التخوف الدائم كان أن يمنع الفيلم خلال التصوير، لكن ما ساعدهم هو ظن البعض أن المخرج يحضر فيلما عن تاريخ السينما السودانية بشكل عام.
يضحك المخرجون الكبار مع صهيب: " كان بالنسبة لنا زول دخيل ومزعج"، فكلهم مخرجون من جيل أكثر كلاسيكية، وينتمي هو لعصر الديجيتال! "كنا نعرف أننا جميعا في ورطة"، لكنها بالطبع ورطة ممتعة جدا لهم وللمشاهد الذي تورط بدوره في مشاعر الصداقة والتواطؤ التي سادت الفيلم وأكسبته إيقاعا في منتهى السلاسة، فداخل المجموعة تتكون بمرور الوقت "ميزان سين" أو ترتيب الخطة الحركية أمام الكاميرا بشكل تلقائي، هم يتحركون فعليا هكذا في الحياة وفقا لطباعهم وشخصياتهم المختلفة، ما أفاد المخرج كثيرا في رسم خطته هو خلال التصوير.
***
نتابع نبش الأصدقاء الأربعة في ماضيهم وتاريخ السودان الثقافي والسياسي بمرح. ننفض معهم الأتربة عن أشيائهم القديمة، وكأننا ننفض الغبار عن السودان ككل، وكأننا وكأنهم نستشعر ما هو قادم ونتفاءل معهم بحذر، فالأشجار الصامتة قد تحدثت وحديثها ذو شجون.