بقلم: داليا شمس
ليس من اليسير وصف عالم الكاتب الياباني الساحر هاروكي موراكامي لمن لم يسعد بقراءة أحد أعماله. للصمت موسيقى نتعلم كيف ننصت إليها مع أبطاله، وقد أراد لفت نظرنا لذلك منذ البداية فجعل عنوان أولى رواياته "اسمع صوت أغنية الريح"، في العام 1979. يجوز معه أن يطلع في السماء قمران، وأن يتكلم أحدهم مع القطط، وأن تأتي فكرة في هيئة شبح والعكس صحيح. نتابع حكاياته التي تتغير مساراتها بحنكة وغرابة، ولا نقوى على ترك الكتاب، حتى لو وصل حجمه إلى ألف صفحة، كما هو حال روايته الأخيرة التي لم تترجم بعد إلى العربية "مقتل القائد"، والتي جاءت في جزأين وأربعة وسبعين فصلا، بعد سبع سنوات من صدور ثلاثيته الناجحة "1Q84"، وهو عنوانها نفسه بالعربية. موراكامي يأخذنا إلى "ما بعد الظلام"، كما تنبأنا رواية أخرى من مؤلفاته، إلى قعر البئر بما يحوى من أسرار، إلى عالم موازٍ لا يقتصر بالضرورة على كل ما هو مرئي.
لا شيء يدل كالعادة في بداية روايته الأخيرة أن حياة الرسام الثلاثيني، بطل العمل والراوي، ستأخذ هذا المنحى الغامض فتصير مجموعة من الألغاز يمسك بخيوطها حكاء ماهر، وهو موراكامي الذي يعترف بأنه يطلق لخياله العنان دون تخطيط مسبق لمسار الحكاية، يترك مساحة لألعاب اللاوعي ويمسك بتلابيبه بشغف. يقف الرسام في مفترق طرق بعد أن تركته زوجته فجأة من أجل عاشق آخر، يتجول دون هدف بين المدن بسيارته الصغيرة بحثا عن معنى، يقرر ألا يرسم بورتريهات تجارية مجددا ليضعها أصاحبها في مكاتبهم ويفضل أن يعيش على مدخراته، وينتهي به المطاف في بيت كبير منعزل بمنطقة جبلية نائية كان يقيم فيه رسام كبير اشتهر بفن النيهونجا التقليدي. أصاب الزهايمر هذا الأخير، وفضل ابنه، صديق الراوي، وضعه في دار للرعاية. وبالتالي كان من المناسب أن يقيم الراوي في البيت الكبير ليحرسه ويفكر مليا في حياته وفي الأسلوب الفني الجديد الذي يريد اتباعه. نقف معه أمام اللوحة البيضاء في حيرة، وندخل معه في حالة من البحث حتى يأتيه الإلهام ويتفجر بداخله الإبداع، هو الذي لا طالما أراد رسم داخليات النفس البشرية دون الاكتفاء بالظاهر والمرئي، مثلما الكاتب.
الظلال، الأحلام، حركة الحشرات، مياه المطر، رفيف طائر، جرس خافت... التفاصيل الصغيرة تتراكم وتصنع عالما فريدا يعيش فيه الراوي وحيدا، حتى يطلب منه يوما وكيل الفنانين الذي يتعاون معه أن ينظر في أمر عرض سخي لرسم بورتريه أخير لرجل ثري يدعي مينشسكي، يشترط أن يتم إنجاز العمل في حضوره كموديل حي أمام الرسام. يقبل الراوي العرض بعد تفكير ثم تتوالى الألغاز والحكايات، كما عجينة "الميل فيي" ذات الطبقات المتعددة، نتعرف من خلالها على الموضوعات الأثيرة لدى الكتاب: الوحدة، عملية الخلق والإبداع، تأملات الحياة والموت، الحنين، الخوف، في أجواء سردية لا تخلو من السريالية والميتافيزيقا.
***
نقرأ النص كما لو كان مقطوعة موسيقية، ونكتشف فيما بعد أنه بالضبط ما أراده موراكامي، الذي يعترف في أحاديثه الصحفية القليلة أنه يكتب كما لو كان يعزف على آلة موسيقية. تتلاشى الحدود بين الحقيقة والخيال، ونتنقل بتلقائية مع موسيقى النص أو الحكاية، ويتجلى لنا ملمح آخر من شخصية موراكامي العاشق لموسيقى الجاز بتنويعاتها التي تنطلق من جملة واحدة. يرتجل ويرتجل إلى ما لانهاية، يزيد عدد الشخصيات والخطوط الثانوية، ولكن تظل هناك نواة صلبة متسقة مع ذاته وأعماله الأخرى.
خلال عملية خلق الرواية، تصطحب الكاتب دوما أنغام الموسيقى الكلاسيكية، وغالبا موسيقى الحجرة. لا يستمع إليها بالضرورة، لكنها تظل في الخلفية، وربما يكون لذلك تأثيرا على العمل. يهرب إلى عالم من الخيال الخصب، كما لو كنا في بلاد العجائب، وقد ساعدته قراءة الكتب منذ الصغر على كسر رتابة واقعه السلس داخل أسرة ميسورة الحال، وفرت له كل سبل الراحة والاضطلاع على الثقافات الغربية. شعر منذ الطفولة أن الخيال أجمل من الواقع، وأن الكتب تنقله إلى بحر صاخب من الأمواج.
يبدأ الكتابة في الصباح الباكر ولمدة 12 ساعة متواصلة، تتخللها ساعة من المشي وأخرى من السباحة، يركز فيهما على صفائه الذهني. يقول إنه يستمع كثيرا إلى الأموات، إلى صوت العديد من الأصدقاء الذين فقدهم، إذ انتحر بعض رفاقه القدامى الذين انضموا مثله إلى الحركة الطلابية اليابانية في السبعينات، ثم خزلتهم السياسة والأحلام. يجنح الكاتب السبعيني إلى ما وراء الطبيعة، وهو الذي مر كأبطاله برحلة بحث عن النفس طويلة، قادته أقدامه خلالها للعيش في اليونان وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، قبل الرجوع إلى اليابان بعد زلزال كوبي سنة 1995.
***
المقطوعات الموسيقية دائما ما تصاحب الرحلة في مجمل أعماله، تارة يشير إلى سيمفونية تشيكية أو إلى مقطوعة جاز أو إلى مشهد أوبرالي كما في روايته الأخيرة التي استلهم عنوانها "مقتل القائد" من نهاية أوبرا "دون جيوفاني" لموتسارت، حين يقتل هذا الأخير قائد الفرسان ووالد امرأة حاول إغواءها. يستمع الراوي مرارا وتكرار لهذه الأوبرا في محاولة لفهم سر لوحة "النيهونجا" التي وجدها مخبأة في البيت الذي يسكنه والتي حملت اسم "مقتل القائد"، وهي تصور جريمة قتل شبيهة ممزوجة بشخصيات ترتدي الملابس اليابانية التقليدية للقرن السابع. واحد من خطوط الرواية التي تتشابك أحداثها ببراعة وحنكة. ولمعرفة المزيد عن عالم موراكامي الموسيقي نشر بالتوازي مع روايته الأخيرة مؤلف له بعنوان "عن الموسيقى. حوارات" وهو عبارة عن ستة حوارات دارت بينه وبين صديقه المايسترو الياباني سيجي أوزاوا، على مدار سنتين، حول مقطوعات بعينها لبرامز وبيتهوفن وبارتوك وبيرليوز وغيرهم، وتحليلاتها، وطرق عزفها المختلفة، وبعض النكات والحكايات الشيقة التي تجعلنا نحلق بعيدا فيما وراء الطبيعة مع موراكامي.