بقلم : داليا شمس
"لم أكن ماري أنطوانيت. لا أنتمي لطبقة النبلاء بحكم المولد، لكن من حقي أن أكون يوما ضمن هؤلاء". هذه الجملة المنسوبة لإيميلدا ماركوس التي حكمت الفلبين إلى جوار زوجها لحوالي عقدين تلخص طريقة تفكير السيدة الأولى صاحبة الثلاثة آلاف حذاء وتطلعاتها التي لا تزال تملي عليها تحركاتها حتى الآن رغم اقترابها من التسعين.
عرض مهرجان الجونة السينمائي مؤخرا فيلما وثائقيا بعنوان "صانعة الملوك" (Kingmaker) للمخرجة الأمريكية لورين جرينفيلد التي تعنى أعمالها بالأساس بدراسة الأغنياء وأصحاب الجاه والسلطة، غاصت في عالم المشاهير على مدى خمسة وعشرين عاما، وكان أشهر أفلامها "ملكة فرساي" الذي صور حياة الزوجين ديفيد وجاكي سيجيل، من ملوك التايم شير، حين عكفا على بناء أكبر منازل الولايات المتحدة الأمريكية على شاكلة قصر فرساي، ليكون مقر إقامتهما، ثم داهمتما الأزمة الاقتصادية، فصار الوثائقي من أهم الأفلام التي تناولت ظاهرة الكساد العالمي.
هنا أيضا في "صانعة الملوك" نتحول من حالة خاصة إلى حالة عامة تثير القلق. ترسم المخرجة ببراعة بورتريه لإميلدا ماركوس التي يصفها ابنها في الفيلم بأنها "حيوان سياسي"، ويفتخر بعودتها للحياة السياسية كنائبة في البرلمان ودعمها الدائم لأبنائها لكي يحصلوا على أعلى المناصب، إذ ترشح هو شخصيا- بونج بونج ماركوس- عام 2015- ليكون نائبا لرئيس الجمهورية ويشارك رسميا في الحكم، إلا أن الحظ لم يحالفه وفازت عليه زعيمة كتلة المعارضة. وتتواتر الأخبار حول إمكانية ترشحه للرئاسة بحلول 2022، وحول علاقاته الوطيدة بالرئيس الحالي ودعمه له، إلى درجة القبض على زعيمة المعارضة ونائبة الرئيس والحكم عليها بالسجن لمدة 12 عاما، في شهر يوليو الماضي.
***
نحن أمام سلالة ماركوس بزعامة الأم إيميلدا التي تدفع بالجميع إلى سدة الحكم، وكأننا بصدد أسرة ملكية حريصة على أن تظل على رأس "دولة السبعة آلاف جزيرة"، مهما كلفها الأمر بعد أن ثار الشعب ضدها في العام 1986 وهربت إلى هاواي. شيء مثير ومخيف أن نرى كيف يتم استخدام الأموال التي استولت عليها العائلة في السابق لتبرأة ساحتها، إذ قدرت ثروة ماركوس وزوجته عند خروجه من الفلبين بحوالي عشرة بلايين دولار، ورغم محاولات استرداد الأموال إلا أن الأسرة ظل لديها الكثير والكثير، بسبب تهريب المقتنيات والمجوهرات الثمينة وامتلاكهم لأصول وعقارات في الخارج. وبعد رجوعهم إلى بلادهم في مطلع التسعينات، عادوا تدريجيا إلى الحياة السياسية، وساعدهم بالطبع سوء الأحوال الاقتصادية وبؤس الشعب.
نشاهد إيميلدا ماركوس وهي توزع المال على الفقراء في مواقف مختلفة. تسير وراءها سيدة تحمل حقيبة يدها، تناديها فتخرج رزم الفلوس وتعطي لأطفال مركز السرطان أو للمواطنين خلال جولاتها الانتخابية، وتردد "الحكومة الحالية ليس لديها قلب (...) الشعب يحتاج إلى أم". ثم تكرر مرات عدة، خلال الفيلم، حكاية أنها فقدت أمها وهي في الثامنة، وظلت طوال حياتها تبحث عن عطف الأم، لذا فهي تعرف قيمته جيدا وتشعر أنها أم لجميع أبناء الشعب. وهي تبرر العديد من الأفعال التي اقترفتها خلال فترة حكم زوجها أنها كانت "بدافع الأمومة"، والدفاع عن مصلحة الوطن، بما في ذلك الأحكام العرفية التي فرضها زوجها سنة 1972، فعلق عمل سائر المؤسسات الديمقراطية وسجن وعذب المعارضين، إلى ما غير ذلك، بما وضعه فوق المساءلة.
***
المخرجة لديها قدرة فائقة على إقناع الشخصيات بالمثول أمام كاميراتها. إيميلدا ماركوس تتحدث بأريحية، تتجول في قصرها القديم أو في شقتها الفاخرة حيث تقيم. تتأكد قبل بدأ التصوير أنها بكامل هندامها وأناقتها، وأن بروز بطنها قليلا لا يظهره الفستان. تقول إن الشعب بحاجة إلى مثال يتطلع إليه، إلى شخص قوي، وتروي تفاصيل صعودها من فتاة بسيطة إلى ملكة جمال مانيلا إلى زوجة ماركوس الذي طلب يدها بعد عشرين دقيقة من لقائهما وتزوجها بعدها بأحد عشر يوما. تحرص أن تؤكد على حبه لها، وإظهاره بصورة الزوج الحنون والزعيم المظلوم الذي دفن سنة 1998 في مقابر الأبطال القوميين بمانيلا، بعد تسع سنوات من وفاته. وبعدها مباشرة نستمع لإحدى صديقاتها وهي توضح كيف كانت تؤلمها خياناته المتكررة لها، وكيف كانت تستخدمها للحصول على ما تريد وتعظيم دورها، إذ صارت مبعوثه الخاص للرؤساء والقادة خلال الحرب الباردة.
يتقاطع كلامها مع الوقائع التي ترويها الأطراف المختلفة من المعارضة وشهود العيان. نستمع مثلا إلى شهادات أهل الجزيرة الصغيرة الذين هجرتهم بالكامل لتضع مكانهم الحيوانات التي أتت بها من كينيا، ونستمع أيضا إلى المقارنات بينها وبين السيدة كوري أكينو (الرئيسة الحادية عشر للفلبين التي توفيت في أغسطس 2009) التي كانت على درجة عالية من التعليم والثقافة ولم تكن تهتم بالمظاهر، بخلاف إيميلدا ماركوس التي تتصرف كالأغنياء الجدد وتهوى البذخ.
الفيلم لايرسم صورة فقط لماري أنطوانيت الفلبين، التي نجد مثيلاتها في العديد من الدول الأخرى، لكنه فيلما عن هشاشة الديمقراطية، عن شهوة السلطة وإدمانها، عن عودة اللهو الخفي وإعادة تمكينه، وعن التاريخ الذي يعيد نفسه وذاكرة الشعوب التي يصيبها الضعف والوهن أحيانا.