توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رمز البلدوزر

  مصر اليوم -

رمز البلدوزر

بقلم : داليا شمس

تذكرت تشبيهاً لم يعد دارجا "فلان مثل مأمور الهدد"، كانت تقوله جدتي لكي تصف شخصاً متسلطاً يعطي أوامر كثيرة في طريقه وعلى من حوله الطاعة، في إشارة إلى مسمى وظيفة كانت على أيامها، يقوم صاحبها بالمرور في الشوارع وإعطاء أوامر بهدم المخالف من مبانٍ إلى ما غير ذلك فتأتي فورا الجرافات لتنفذ. اختلفت المسميات لكن هناك دوما في حياتنا من يشغل هذا المنصب بحق أو بغير حق، على المستوى الفردي والعام، بل على مستوى العالم، هناك العديد من "مأموري الهدد" على مستويات مختلفة في هذا العصر الذي صار البلدوزر هو أحد رموزه البصرية والمعنوية. يظهر في مكان فيتحول إلى كومة تراب... في العراق يزيل الدواعش مدينة النمرود الأثرية وغيرها بالجرافات، في فلسطين تحول بلدوزر الصهيونية إلى أيقونة التطهير العرقي عبر السنوات، في مصر عمليات إحلال وتبديل وتعديلات واسعة تجعلنا نفقد هوية المكان فلا يتبقى من القرافة وبعض البنايات والأحياء القديمة أحيانا سوى أبواب خشبية كالحة اللون. في أماكن كثيرة من منطقتنا يبكي الناس على الأطلال ويقوموا بعمليات جرد لسنواتهم الضائعة. قد يوحي منظر الأطلال ببعض الشاعرية ويستلهم منه المبدعون صورا أدبية جديرة بالاحترام، لكنه مؤلما حتى حين يرى فيه المحللون رابطا بين الماضي والحاضر أو دليلا صارما على أن كل شيء إلى زوال.
***
الأطلال تحيط بنا من كل جانب وتقترب أكثر فأكثر، نذهب من حافة إلى حافة، في عالم على شفا الانتحار أو الانهيار، لا فرق فنحن على أية حال لا نفعل شيئا لإنقاذه، نمشي بخطى ثابتة نحو النهاية، مثل كل من عاشوا عصور الاضمحلال قبلنا، تلك التي كنا نسمع عنها في كتب التاريخ ونظنها بعيدة، لكنها صارت واقعا ملموسا، ومن هذا الواقع ينشأ واقع جديد. هي دورات التاريخ، تصعد إمبراطوريات وتنهار أخرى، يموت ناس ويأتي آخرون ليتلمسوا آثار السابقين ويقولوا مكان هذا الطلل أو ذاك كانت هناك مدينة واندثرت أو تهدمت.
هي ليست نهاية العالم كما يردد البعض بسخرية عندما تزداد وتيرة المآسي، لكن نهاية العالم الذي نعرفه. وهذا النوع من النهايات لا يقع فجأة كالمصائب، بل تسبقه مقدمات حتى حين يتوقف عندها المفكرون والمتخصصون فهم لا يتلافوها. سقطت الإمبراطورية العثمانية في العام 1918 وتقطعت أوصالها وتفككت وتم تقسيم مناطق نفوذها وتنازلت عن سائر أراضيها باستثناء تركيا بموجب معاهدة لوزان سنة 1923، لكن بوادر التراجع كانت قد بدأت تدريجيا منذ نهاية القرن الثامن عشر، ولم تفلح محاولات الإصلاح والاستعانة بالدين لرأب الصدع. ومن قبلها انهارت الإمبراطورية الرومانية بعد ثلاثة قرون من الازدهار، في نهاية القرن الثالث عصفت بها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وفي مثل هذه الأوقات يظهر الحنين، يتحسر الناس على ما قد مضى ويرددون أن زمان كان أفضل ويتمنون لو يرجعون إلى الوراء لأنه لم يبق شيء على حاله... وهم بعيدون كل البعد عن التنظير وتحليلات بعض المفكرين وعلماء التاريخ والاقتصاد التي تتحدث عن ملامح نهاية عهد أو مرحلة.
***
نحن أيضا تملكتنا حالة من النوستالجيا العارمة خلال السنوات الأخيرة، نبحث عن الصور القديمة لما كانت عليه المدن المختلفة، نشاهد دراما تليفزيونية تدور في فترات سابقة، إلى ما غير ذلك، ونحن لا نفهم بالضرورة أن هذا من خصائص فترات التراجع والاضمحلال. لم يسمع معظمنا عن كلام الفيلسوف والمؤرخ الإيطالي جامباتيستا فيكو (1668-1744) حول الدورات التي تحكم مسار التاريخ: "مرحلة الآلهة" التي يسيطر خلالها الفكر الديني والكهنة، "مرحلة الأبطال" التي تسيطر خلالها النخبة العسكرية، "مرحلة الديمقراطية" أو حكم الناس والتي تشهد بداية التراجع والانحدار، لتقودنا مجددا إلى المرحلة الأولى، وهكذا دواليك، لكننا نفتقد الشوارع المظللة بأشجار البونسيانا والأكاسيا بأطيافها الأرجوانية والحمراء. لسنا بحاجة كذلك إلى نظريات خبراء الفلسفة والاقتصاد المعاصرين وأصحاب المؤلفات الحديثة التي تفيد بأننا في عصر انهيار أو انحسار، لكي نفهم أن البلدوزر "رمز الدمار الشامل" ينسف كل ما هو قديم لكي يقوم جديد ليس بالضرورة أفضل لكنه مختلف. أتخيل نفسي مكان "مأمور الهدد" في العصر الحالي ومن يأمر بذبح الأشجار وتدمير المنازل وهو لا يفهم نظرة البعض المتشائمة تجاه المستقبل، ولا يفهم معارك البعض ضد البلدوزر للإبقاء على مبنى قديم، ولا يفهم أن المذبحة شاملة ولن ينجو منها أحد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رمز البلدوزر رمز البلدوزر



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon