بقلم : داليا شمس
تذكرت تشبيهاً لم يعد دارجا "فلان مثل مأمور الهدد"، كانت تقوله جدتي لكي تصف شخصاً متسلطاً يعطي أوامر كثيرة في طريقه وعلى من حوله الطاعة، في إشارة إلى مسمى وظيفة كانت على أيامها، يقوم صاحبها بالمرور في الشوارع وإعطاء أوامر بهدم المخالف من مبانٍ إلى ما غير ذلك فتأتي فورا الجرافات لتنفذ. اختلفت المسميات لكن هناك دوما في حياتنا من يشغل هذا المنصب بحق أو بغير حق، على المستوى الفردي والعام، بل على مستوى العالم، هناك العديد من "مأموري الهدد" على مستويات مختلفة في هذا العصر الذي صار البلدوزر هو أحد رموزه البصرية والمعنوية. يظهر في مكان فيتحول إلى كومة تراب... في العراق يزيل الدواعش مدينة النمرود الأثرية وغيرها بالجرافات، في فلسطين تحول بلدوزر الصهيونية إلى أيقونة التطهير العرقي عبر السنوات، في مصر عمليات إحلال وتبديل وتعديلات واسعة تجعلنا نفقد هوية المكان فلا يتبقى من القرافة وبعض البنايات والأحياء القديمة أحيانا سوى أبواب خشبية كالحة اللون. في أماكن كثيرة من منطقتنا يبكي الناس على الأطلال ويقوموا بعمليات جرد لسنواتهم الضائعة. قد يوحي منظر الأطلال ببعض الشاعرية ويستلهم منه المبدعون صورا أدبية جديرة بالاحترام، لكنه مؤلما حتى حين يرى فيه المحللون رابطا بين الماضي والحاضر أو دليلا صارما على أن كل شيء إلى زوال.
***
الأطلال تحيط بنا من كل جانب وتقترب أكثر فأكثر، نذهب من حافة إلى حافة، في عالم على شفا الانتحار أو الانهيار، لا فرق فنحن على أية حال لا نفعل شيئا لإنقاذه، نمشي بخطى ثابتة نحو النهاية، مثل كل من عاشوا عصور الاضمحلال قبلنا، تلك التي كنا نسمع عنها في كتب التاريخ ونظنها بعيدة، لكنها صارت واقعا ملموسا، ومن هذا الواقع ينشأ واقع جديد. هي دورات التاريخ، تصعد إمبراطوريات وتنهار أخرى، يموت ناس ويأتي آخرون ليتلمسوا آثار السابقين ويقولوا مكان هذا الطلل أو ذاك كانت هناك مدينة واندثرت أو تهدمت.
هي ليست نهاية العالم كما يردد البعض بسخرية عندما تزداد وتيرة المآسي، لكن نهاية العالم الذي نعرفه. وهذا النوع من النهايات لا يقع فجأة كالمصائب، بل تسبقه مقدمات حتى حين يتوقف عندها المفكرون والمتخصصون فهم لا يتلافوها. سقطت الإمبراطورية العثمانية في العام 1918 وتقطعت أوصالها وتفككت وتم تقسيم مناطق نفوذها وتنازلت عن سائر أراضيها باستثناء تركيا بموجب معاهدة لوزان سنة 1923، لكن بوادر التراجع كانت قد بدأت تدريجيا منذ نهاية القرن الثامن عشر، ولم تفلح محاولات الإصلاح والاستعانة بالدين لرأب الصدع. ومن قبلها انهارت الإمبراطورية الرومانية بعد ثلاثة قرون من الازدهار، في نهاية القرن الثالث عصفت بها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وفي مثل هذه الأوقات يظهر الحنين، يتحسر الناس على ما قد مضى ويرددون أن زمان كان أفضل ويتمنون لو يرجعون إلى الوراء لأنه لم يبق شيء على حاله... وهم بعيدون كل البعد عن التنظير وتحليلات بعض المفكرين وعلماء التاريخ والاقتصاد التي تتحدث عن ملامح نهاية عهد أو مرحلة.
***
نحن أيضا تملكتنا حالة من النوستالجيا العارمة خلال السنوات الأخيرة، نبحث عن الصور القديمة لما كانت عليه المدن المختلفة، نشاهد دراما تليفزيونية تدور في فترات سابقة، إلى ما غير ذلك، ونحن لا نفهم بالضرورة أن هذا من خصائص فترات التراجع والاضمحلال. لم يسمع معظمنا عن كلام الفيلسوف والمؤرخ الإيطالي جامباتيستا فيكو (1668-1744) حول الدورات التي تحكم مسار التاريخ: "مرحلة الآلهة" التي يسيطر خلالها الفكر الديني والكهنة، "مرحلة الأبطال" التي تسيطر خلالها النخبة العسكرية، "مرحلة الديمقراطية" أو حكم الناس والتي تشهد بداية التراجع والانحدار، لتقودنا مجددا إلى المرحلة الأولى، وهكذا دواليك، لكننا نفتقد الشوارع المظللة بأشجار البونسيانا والأكاسيا بأطيافها الأرجوانية والحمراء. لسنا بحاجة كذلك إلى نظريات خبراء الفلسفة والاقتصاد المعاصرين وأصحاب المؤلفات الحديثة التي تفيد بأننا في عصر انهيار أو انحسار، لكي نفهم أن البلدوزر "رمز الدمار الشامل" ينسف كل ما هو قديم لكي يقوم جديد ليس بالضرورة أفضل لكنه مختلف. أتخيل نفسي مكان "مأمور الهدد" في العصر الحالي ومن يأمر بذبح الأشجار وتدمير المنازل وهو لا يفهم نظرة البعض المتشائمة تجاه المستقبل، ولا يفهم معارك البعض ضد البلدوزر للإبقاء على مبنى قديم، ولا يفهم أن المذبحة شاملة ولن ينجو منها أحد.