بقلم : داليا شمس
هناك انطباع أن أطرافا عديدة في كل مكان تتمنى وجود صحافة بدون صحفيين، وذلك أكثر من أي وقت مضى. حكام علاقتهم بالصحفيين مضطربة للغاية، يبعدونهم عن البيت الأبيض أو الإليزيه أو قصور الرئاسية والملكية عموما، ولا يرغبون في رؤيتهم في الكواليس. ورجال مال وأعمال يلجأون إليهم عند الحاجة، لكن لا يريدوا مخالطتهم أكثر مما يجب، يدعونهم لتغطية مهرجان أو حدث يقومون بتنظيمه، ويقبلونهم على مضض في حفلات الافتتاح والختام أو الاحتفاليات الخاصة، كما لو أنهم يمنون عليهم أو كما لو أنهم هم فقط من يتطاولون على أسرارهم ومجالهم الخاص ويسربون أخبارهم.
صفات التلصص والتربص والتربح صارت ملتصقة بالصحفيين، وبعضهم ترسخ ممارساته الخاطئة هذه الصورة بالفعل، لكن ذلك يخدم أيضا مصلحة بعض من يحولونهم بالضرورة إلى متربحين مغرضين، يأكلون على كل الموائد ويوافقون على هذا النوع من العلاقة طالما تشملهم الفائدة والمكافآت التي قد تعتبر مجزية.
علاقة شائكة، ازدادت تعقيدا مع اختفاء نمط العائلات المالكة تقليديا للصحف أو أشخاص من المهنة يؤسسون جرائدهم ويحلمون بتوسعها. لم يعد المجال وهامش الحريات والأزمات المالية والعوامل المختلفة تسمح كثيرا بهذا النوع من التطلعات، بل جعلت الملكية تنحسر أكثر فأكثر في أيدي السلاطين والمجموعات الاقتصادية العملاقة. وغالبا يحب أصحاب رأس المال امتلاك الصحف، على ألا توقعهم في مشكلات مع أولي الأمر وأصحاب القرار، حتى لا تتأثر مصالحهم الاقتصادية وتتحول لمصدر "وجع دماغ". وهكذا ندور في دوائر مفرغة، حتى مل القارئ منا جميعا، وفقد الثقة في الجميع، وبالتالي انعكس ذلك على أرقام المبيعات، وترجم إلى ظاهرة العزوف عن قراءة الصحف أو مشاهدة التليفزيون، فصار الناس في مصر مثلا يتابع معظمهم قناة "ماسبيرو زمان" ليغرقوا في زمن غير زمن، ويتمتعون بأحاديث كتاب كبار بحجم نجيب محفوظ ويوسف إدريس وطه حسين وغيرهم من نجوم رحلوا عن عالمنا. يتطلع المتلقي لهذه الأيام التي كان الصحفي فيها يسأل والضيف يجيب، وكانت العلاقة بين الصحفي والمصدر يشوبها الكثير من الاحترام الذي نفتقده، فكانت الحوارات الثرية والمفيدة دون تبجح.
صحف تموت واحدة تلو الأخرى، تذبل وتختفي أو تتحول عن مسارها. الجميع يتحدث عن أزمة قطاع الإعلام ونقص الإعلانات، وبصورة أقل عن الفارق بين الصحافة ومجال العلاقات العامة والاتصالات، وبصورة أقل وأقل عن أجور ومعاشات الصحفيين سواء التي صارت تصل إلى أرقام فلكية أو التي ظلت على ضآلتها منذ القرن الماضي. صار الصحفيون عناصر غير مرغوب فيها، الكثيرون منهم اضطروا لمعاش مبكر للغاية بحكم التعطل عن العمل. ولم يعد مفهوما متى سيبدأون في استشعار الخطر والتحرك للدفاع عن مهنة تحتضر ولن ينقذها سوى التكتل والحفاظ على أخلاقياتها وأدبياتها ومكانتها. أرغب في الصراخ في وجه بعضهم: اعتصموا بحبل المهنة جميعا ولا تفرقوا، فاستقلاليتكم أمام المصادر وندية التعامل هي التي تكفل عدم تحولكم لمجرد "كتبة" يملي عليهم البعض ما يجب أن يقال أو لا يقال.
نشعر بالفارق الكبير بين جيل "ماسبيرو زمان" عندما نسمع مصطفى أمين يلخص مدرسته الصحفية بجملة واحدة في إعلان أحد البرامج القديمة: "للمواطن العادي الحق في أن يعرف ما يعرفه رئيس الجمهورية"! ثم نقرأ في اليوم التالي أخبارا عن المصير الغامض لهذا الصحفي أو ذاك، وعن أعداد الصحفيين الذين أوقفهم أردوغان في أعقاب الانقلاب الفاشل وكيف سجن 148 صحفيا، وأغلق 75 جريدة و28 قناة تليفزيون و32 راديو والبقية تأتي، في ظل علاقات مضطربة، كما لو أنها صرعة قد أصابت العالم ولن تهدأ في الوقت الراهن. آخر صرعة هي الصحافة "المكلومة" أو "المكتومة" أو "المكبوتة" حتى في دول مثل أمريكا وفرنسا، فما بالك بهذه المنطقة من العالم. صرنا نتكلم عن الكبت الصحفي أكثر من السبق الصحفي، وعلى المتضرر أن يفعل شيئا.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع