بقلم : داليا شمس
عاش فلان أعواما مديدة في مدينة صغيرة ولم يعرف بوجوده أحد، بعكس الشاعر الذي مات قبل أكثر من عشر سنوات ولايزال يملأ الدنيا ضجيجا وصخبا.. ذلك قدر البعض أن ينتمي لمن أطلق عليهم عالم الاجتماع الفرنسي إدجار موران "سكان الأوليمب"، أعلى جبل في اليونان وبيت الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية القديمة.
تناول الكثيرون على مدار الأسبوع الماضي القصص والروايات حول حياة محمود درويش الشخصية، وأخذ كلٌ يدلو بدلوه بسبب المقال الذي نشره الكاتب السوري الكردي سليم بركات في جريدة "القدس العربي" بعنوان "محمود درويش وأنا" والذي ورد فيه أن الشاعر الفلسطيني الكبير له ابنة غامضة من امرأة مجهولة كان على علاقة عابرة بها وهي متزوجة، وأن هذا الأخير باح بسره المزعوم في ساعة صفا لبركات، وطبعا العهدة هنا على الرواي الذي قرر أن يفشي سراً لصديق لم يعد بيننا ليؤكد أو ينفي، فصار مستباحا وحياته ملكا مشاعا للجميع.
***
بغض النظر عن مدى صحة الكلام ومدى أخلاقية إفشاء ما ادّعى الكاتب أنه سر، وبغض النظر عن الفذلكة اللغوية الممجوجة التي كُتب بها المقال، فاللغط الذي أثاره بعض ما نشر بهذا الصدد يرجع بالأساس إلى شغف الناس بحياة المشاهير الخاصة، وهو ما يفسر النجاح التجاري لكتب النميمة وتلك التي تتناول التاريخ السري للمشاهير حتى بعد وفاتهم. ننظر مثلا للوحات كبار الفنانين بشكل مختلف بعد قراءة الأخبار حول علاقاتهم النسائية المتعددة ونحاول الوقوف على مدى تأثر الرسم بقصص الحب، نقتفي أثر الشبق بين الخطوط المتشابكة، نحاول أن نقحم أنفسنا في لحظة حميمية مرت، ونتساءل بفضول: هل يرى الرسام عشيقته بالطريقة نفسها التي يصور بها أي موديل محترف؟ وينطبق ذلك أيضا على الشعر الذي يمثل أقصى أنواع التعبير عن الذات ويحتمل الكثير من الإفراط والتجاوز والمبالغة.. دفقات شعورية مكثفة قد تروي أشياء خاصة تتعلق بحب أو موت أو فراق أو رحيل نقتفي أثرها أيضا في أبيات القصيدة.
نختلس النظرات إلى حياة المشاهير الخاصة، ربما عوضا عن أحلام لم نتمكن من تحقيقها أو رغبة منا في الهرب من واقع يومي كئيب ورمادي... نهرب مثلا من شبح الكورونا إلى خيال حكايات النميمة. يريحنا في مكان ما شعور أن الآخرين أيضا لديهم هفوات وهنات ومشاكل، مهما علت مكانتهم ولمع نجمهم، هم أيضا يعانون الفشل في بعض مجالات الحياة. نستمتع بتكسير الأصنام وتهشيم صور الأيقونات. يجذبنا هذا الخليط الهش من حياة عامة مليئة بالنجاحات والتحليق، وحياة خاصة لا تخلو من المنغصات والأمور العادية مثل خلافات الأزواج والمرض والمقامرة.
***
لا شيء يعجبني كما قال درويش. لا شيء يصبو إلى الكمال، فهو ليس من صفات البشر. وعندما يخرج أحدهم ويزعم أنه كان من المقربين من هذا النجم أو ذاك يحاول إثبات أنه ينتمي بدوره إلى النخبة، إلى الكوكبة المختارة التي تخالط المشاهير وعلية القوم. يتخذ البعض من هذا الدور نشاطه الأساسي ويصبح وسيلته لأكل العيش وجذب الانتباه أو التربح. وفي حالة الأموات لا سبيل للمساءلة، فقوانين بعض البلاد لا تعطي الحق حتى للورثة في الاعتراض حين يكون ما قد أثير لا يسيء إليهم بشكل شخصي ومباشر. تستباح حياة المشاهير الذين غيبهم الموت. وفي حالة درويش تمر هذه الحكايات العابرة وتبقى سيرته الشعرية ومواقفه السياسية. تبقى كلماته حين يُعرف نفسه مثلا في كتابه " في حضرة الغياب"، قائلا: "فمن أنت في هذه الرحلة؟ أشاعر طروادي نجا من المذبحة ليروي ما حدث، أم خليط منه ومن إغريقي ضل طريق العودة؟ إن فتنة الأسطورة تجعلك نهبا لانتقاء الاستعارات..."، كان الشاعر بالطبع يعلم أنه ينتمي لسكان الأوليمب ولم يكن ليرضى عن ذلك بديلا.