أحتفل الأقباط الخميس الماضى بعيد يسمى عيد الغطاس؛ وهو عيد مسيحى له سمات مصرية خاصة. ويقول الرحالة على بن الحسن فى كتاب «مروج الذهب» وهو رحالة من بغداد جاء إلى مصر عام 957م وقد صادف مجيئه فى عيد الغطاس فوصف هذا اليوم وقال: «يخرج الناس إلى النيل، وقد وجد أكثر من ألف مشعل وشموع وفوانيس، وآلاف المسيحيين والمسلمين يخرجون من بيوتهم فى تلك الليلة ويأتون بالمشرب والملبس ويعزفون الموسيقى ويغنون وهى أحسن ليلة فى مصر، لا تغلق الأبواب ولا الدروب ويغطسون فى النيل».
ويصف أيضاً مؤرخ أخر وهو ابن اياس (1448 1523) ويقول عن عيد الغطاس فى مصر: «أن نهر النيل يمتلئ بالمراكب والزوارق ويجتمع بها السواد الأعظم من المسلمين والنصاري، فإذا دخل الليل تتزين المراكب بالقناديل وتشعل فيها الشموع، وكذلك على جانب الشواطئ يشعل أكثر من ألفى مشعل وألف فانوس وينزل رؤساء القبط فى المراكب، ولا يغلق فى تلك الليلة دكان ولا درب ولا سوق، ويغطسون بعد العشاء فى بحر النيل النصارى مع المسلمين سوياً، ويزعمون أن من يغطس فى تلك الليلة يأمن من الضعف فى تلك السنة».
ويقول المسعودى أيضاً الذى عاصر الدولة الأخشيدية فى مصر: «ليلة الغطاس فى مصر لها شأن عظيم، فالمصريون (مسلمين وأقباطا) يذهبون إلى النيل ويطوفون بالمراكب والمشاعل والشموع، ويجلسون على الشطوط يأكلون ويشربون ويتسامرون، وتكون أحلى ليلة فى مصر ويغطس أغلب الأقباط فى النيل إذ يزعمون أنه يُطهر من أى داء».
وإن كان عيد الغطاس فى المسيحية هو عيد نزول السيد المسيح فى نهر الأردن ليعتمد من يوحنا المعمدان؛ وهذه الطريقة قد سلمها لتلاميذه ورسله أن يكون بهذا الشخص مسيحياً أن يعتمد فى الماء، ولهذا يُعيد كل مسيحيى العالم بعيد الغطاس. إلا أن فى مصر الغطاس له طقوس أخرى ومذاق آخر وهذا لأن النيل فى مصر له تاريخ حضارى وله مشاعر خاصة فى نفوس المصريين وفى عاداتهم وتقاليدهم. فالمصريون أطلقوا على النيل النهر المقدس، وفى الكتاب المقدس يقول سفر التكوين إنه أحد الأنهار التى تسقى جنة عدن (تكوين 1: 13).
وفى نظريات نشأة الكون عند الفراعنة فى نظرية هرموبوليس يقول إن الإله نون رب المياه الأزلية كان هو بداية كل شيء وحين انحسرت المياه ظهر تل الأبدية وظهرت الكائنات. وفى سفر التكوين يقول أيضاً: «فى البدء خلق اللـه السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح اللـه يرف على وجه المياه» (تكوين 1: 1، 2).
والإله نون فى اعتقاد المصريين هو مصدر مياه النيل لذلك كان النيل مقدسا فى معتقدات أجدادنا وإلى الآن فنحن ننظر إلى النيل على أنه شريان الحياة حتى أن هيرودوت يقول: «مصر هبة النيل». وحقيقة الحضارة المصرية ارتبطت بالنيل حتى أن القدماء أطلقوا عليه «اترو-عا» أى النهر العظيم ومنها جاءت كلمة ترعة أى فرع من فروعه.
وكان الإله آمون يقول على لسان أحد كهنته أن من يشرب من النيل فهو مصري، وإلى الآن فى التراث الشعبى نقول من يشرب من النيل لابد أن يعود إليه مرة أخري. وارتبط النيل بكل ما هو مقدس حتى أن المصريين اعتقدوا أن أوزريس وهو إله الأبدية والخلود مرتبط بالنيل ومن كان يقف أمامه فى الحساب الأخير لابد أن يؤكد أنه لم يلوث النيل ولم يحبسه عن الجريان.
ولكن كان الإله الأشهر للنيل هو حابى وهو يمثل روح النيل وجوهره. وفى الحقيقة وحتى لا يفهم أحد أن كل هذه الآلهة كانت شركا باللـه فالقدماء كانوا يعبدون الإله الواحد وكلما وجدوا شيئا فى الحياة له قوة الحياة التى تخرج من اللـه يعطونه إحدى صفات اللـه لا كعبادة خاصة ولكنها إحدى صور عمل اللـه الواحد المتعددة الأوجه حتى أنهم قالوا عن حابى إله النيل: »حابى أبو الآلهة الذى يغذى ويطعم ويجلب الخير لمصر كلها والذى يهب كل فرد الحياة... أنك فريد أنت الذى خلقت نفسك من نفسك دون أن يعرف مخلوق جوهرك«.
وكان القدماء يحتفلون بيوم وفاء النيل وهو عيد مهم جداً فيه طقوس دينية وأناشيد وألحان، ثم يصنعون الكعك وهى حلوى مصرية مستديرة علامة اللانهائية وفى داخلها نقوش أشعة الشمس. وانظر معى كيف كان القدماء لديهم هذه الحكمة حتى فى صنع كعك العيد أنه يمثل الشمس وهذا هو سلوك الفرح المرتبط بالأبدية. ويقدمون الكعك والفواكه ويصنعون تميمة من خشب تمثل عروسا يقدمونها للنيل، وللأسف اختلط على البعض هذه الفكرة وروجوا وأشاعوا أن القدماء كانوا يقدمون عروسا حقيقية بشرية للنيل، وهذا خطأ فما كانوا يلقونه فى النيل عروس تميمة خشبية ثم ينزلون بالمراكب يغنون ويرقصون طول النهار والليل فى هذا العيد.
وحين دخلت المسيحية مصر أبطلت العبادات المصرية القديمة ولكن ظل المصريون على عاداتهم الاجتماعية التى احترمتها المسيحية فكان عيد الغطاس هو يوم الاحتفال بالنيل لأن فيه نزل السيد المسيح إلى النهر فاعتبر المصريون أن هذا هو اليوم الذى يعيدون فيه بنفس الطريقة القديمة. فكان البابا والأساقفة والكهنة والشعب يذهبون فى ليلة الغطاس على النيل ويقدمون صلوات القداس وبعدها يبدأ الشعب الاحتفال الموروث من القدماء فينزلون إلى النيل ويغنون ويأكلون ويفرحون إلى الصباح.
وقد عشنا آلاف السنين ونهرنا العظيم يعولنا ويعطينا الخير. وإن كنا فى هذه الأيام نعيش إحدى مشكلات النيل مع إثيوبيا إلا أننا نثق تماماً أن اللـه الذى أهدى لنا هذا النيل العظيم سيظل يحفظه لنا شرياناً للحياة. وكل عام وأنتم بخير.
نقلا عن الاهرام القاهريه