بقلم - بشير عبدالفتاح
مع استعصاء التوصل إلى اتفاق، يرضي جميع الأطراف، بشأن الطلاق البريطاني الأوروبي، وتعذر إجراء استفتاء جديد حول مستقبل العلاقة بين لندن وبروكسل، تتعاظم احتمالات وقوع السيناريو الأسوأ المتمثل في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بغير اتفاق.
ولما كان الأوروبيون قد ألفوا مأسسة وتوثيق علاقاتهم، سواء التعاونية منها أو الصراعية، فقد أضحى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بناء على اتفاق متكامل يتضمن خارطة طريق شاملة وواضحة لذلك الخروج، ترسم ملامح المرحلة الانتقالية وتحدد تفاصيل العلاقة المستقبلية بين لندن وبروكسل في قابل الأيام، هدفا حيويا لبريطانيا والاتحاد الأوروبي في آن. فبينما يفضل بعض البريطانيين طلاقا بغير اتفاق على خطة ماي للخروج التي تعج بمثالب عديدة، يحبذ الأوروبيون وأغلبية البريطانيين خروجا باتفاق، وإن لم يرض جميع الأطراف، تجنبا للتداعيات السلبية المحتملة لطلاق محتمل دونما اتفاق، بما يضع القواعد والتراخيص والاتفاقات المختلفة بينهما في مهب الريح، حتى إن رئيس الوزراء الأيرلندي ليو فاردكار دعا بريطانيا إلى سحب أو تمديد أجل الإشعار الرسمي لخروجها من الاتحاد الأوروبي تجنبا للعواقب الوخيمة لطلاق من دون اتفاق.
فخلافا لتوقعات خبراء بريطانيين مؤيدين لخطة البريكسيت بأن تطوي بين ثناياها مغانم عديدة لبريطانيا، التي يتمتع اقتصادها بركائز قوة تعينه على تجاوز تبعات الطلاق القيصري، وتعظيم الاستفادة منه قدر المستطاع، كتوفير أموال هائلة لبريطانيا، والسماح لها بإبرام اتفاقيات تجارية مع شركاء اقتصاديين مهمين من خارج الاتحاد الأوروبي، بما يوفر نحو مليون وظيفة جديدة، تتوالي تحذيرات مراقبين آخرين من مخاطر طلاق بريطاني أوروبي بغير اتفاق.
فبينما تضمن اتفاق بريكسيت فترة انتقالية تستبقي جميع القواعد والتعريفات كما هي حتى 2020، تبقى سلاسة ونجاعة تلك المرحلة الانتقالية مرتهنة بإبرام اتفاق انفصال شامل، ذلك أنه إذا ما حل يوم الطلاق دون التوصل إلى اتفاق، فستكون بريطانيا بصدد سيناريو مظلم لانسحاب غير منظم من دون فترة انتقالية. ومع تعثر تمرير خطة ماي وبدء العد التنازلي لحلول موعد إتمام الطلاق في 29 أزار (مارس) المقبل، بدأ الجنيه الاسترليني يشهد تراجعا تدريجيا أمام الدولار، فيما حذر محافظ بنك إنكلترا من أن الطلاق البريطاني الأوروبي من دون اتفاق، سيخلف اضطرابات تربك النشاط التجاري والاقتصادي، ويولد ارتفاعا حادا في الأسعار قد يستمر لبعض الوقت، بينما يتوقع خبراء اقتصاديون ارتفاعا حادا في التضخم وزيادة في أسعار السكن بـنسبة 10 في المئة، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بعد عامين بمعدل 6 في المئة، وزيادة أخرى في التضخم، ونموأسعار السكن ما بين 10 إلى 18 في المئة. كذلك، حذرت دراسة لوزارة الخزانة من أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيسبب ركودا لمدة عام ويخفض نمو الاقتصاد بواقع 3.6 في المئة، كما سيسفر عن تراجع الناتج المحلي الإجمالي بواقع 3.6 في المئة خلال العامين اللذين سيعقبان التصويت على البريكسيت قابلة للزيادة بنسبة 6 في المئة لاحقا، وذلك في حالة إبرام بريطانيا اتفاقية تجارية ثنائية مع الاتحاد، علاوة على "صدمة هائلة" إذا غادرت بريطانيا السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي مع إمكانية تعثرها اقتصاديا كعضو منفرد في منظمة التجارة العالمية بعيدا عن الاتحاد. فيما توقع تقرير للخزانة انكماشا في الاقتصاد بواقع 6 في المئة، وخسارة كل أسرة بريطانية نحو 4300 جنيه استرليني من دخلها سنويا. وأكدت وزارة الخزانة أنها أجرت دراساتها بشأن تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد استنادا على ثلاثة عوامل رئيسية، هي: "تأثير الانتقال" المتعلق بتراجع انفتاح بريطانيا على التجارة العالمية، وتأثير "حالة عدم اليقين" بشأن الاقتصاد، و"التقلبات" المحتملة في أسواق المال.
أمنيا، وبعدما أعلن وزير الدفاع البريطاني، غافين ويليامسون، أن 3500 جندي بريطاني سيتم وضعهم في حالة تأهب قصوى لو انسحبت المملكة من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق بين لندن وبروكسل، من أجل تقديم المساعدة لأي وزارة في أي طارئ، حذرت قيادة الشرطة البريطانية مما قد يتمخض عنه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بغير اتفاق من مخاطر هائلة على أمن المواطنين البريطانيين جراء تأثر التنسيق بين الشرطة البريطانية ووكالة الشرطة الأوروبية "يوروبول"، التي تضطلع بمهمة تنسيق الجهد الأوروبي لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة والعابرة للحدود.
وتتنوع الأسباب التي يمكن أن تفضي إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، لعل أبرزها: تعثر تمرير خطة ماي المثيرة للجدل، حيث يرى سياسيون بريطانيون، حتى من داخل حزب المحافظين الحاكم، أن تلك الخطة التي تسببت في استقالة سبعة وزراء وأحدثت زلزالا سياسيا مدويا، تجعل علاقتها بالاتحاد الأوروبي مائعة لأنها تتيح لها مغادرته بينما تبقي على جل التزاماتها بالقواعد والقيود التي تربطها به، ما يضر بمصالح الجانبين. ومن شأن رفض البرلمان البريطاني المحتمل لخطة ماي أن يحشر بريطانيا بين خيارين: إما إجراء استفتاء جديد قد يبقي على عضويتها في الاتحاد الأوروبي، بعدما أكدت محكمة العدل الأوروبية إمكانية ذلك بقرار بريطاني أحادي من دون اشتراط موافقة باقي دول الاتحاد، وهو الخيار الذي ترفضه ماي معتبرة إياه "خيانة" لإرادة 52 في المئة من البريطانيين الذين اختاروا الطلاق عبر خطة ماي في استفتاء حزيران (يونيو) 2016، وإما الخروج بغيراتفاق، بما يستتبعه ذلك من تداعيات كارثية. ومع تعذر الخيار الأول، يبقي الخيار الثاني هو الأقرب للتحقق.
من جهة أخرى، أرجع وزير شؤون التجارة الدولية البريطاني، ويليام فوكس، تنامي احتمالات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، إلى تعنت المفوضية الأوروبية وبيروقراطيتها المقيتة، مستشهدا برفض رئيس فريق التفاوض الأوروبي بمحادثات البريكست في بروكسل مقترحات المفاوضين البريطانيين فقط لمجرد احتوائها على طروحات لم تُجرب من قبل من دون إبداء أسباب أو عرض بدائل، فيما اعتبر خبراء بريطانيون رفض الاتحاد الأوروبي إعادة التفاوض مع بريطانيا أو تقديم تنازلات جديدة لها عبر إدخال تعديلات اقترحتها ماي على خطتها للخروج، والتي تم التوصل إليها بعد مفاوضات شاقة استمرت 17 شهرا، حتى صودق عليها قبل نهاية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وترى بروكسل أنها أنقذت لندن من مغادرة الاتحاد من دون اتفاق، فيما يرى البريطانيون أن الاتحاد الأوروبي يسعى لمعاقبة بريطانيا على اختيارها الخروج، متذرعا بمزاعم الحفاظ على النقاء الأيديولوجي واحترام القواعد المنظمة لعمل المفوضية الأوروبية.
كذلك، شكَّل احتدام الخلاف بشأن الحدود بين أيرلندا الشمالية، والتي تعتبر جزءاً من المملكة المتحدة من جانب، وجمهورية أيرلندا، التي ستبقى جزءاً من الاتحاد الأوروبي حال خروج بريطانيا من جانب آخر، سببا مهما لتعظيم فرص خيار الطلاق من دون اتفاق. فقد تضمنت خطة ماي للخروج "شبكة أمان" تبقي مجمل المملكة المتحدة ضمن اتحاد جمركي مع الاتحاد في حال لم يتمّ التوصل إلى أي اتفاق بين بروكسل ولندن بعد فترة انتقالية تستمرّ 21 شهراً بعد إتمام بريكست في 29 آذار(مارس) 2019. وبينما ينتقد مؤيدو بريكست البريطانيين "شبكة الأمان" كونها تبقي على ارتباط بلادهم بالاتحاد الأوروبي بعد إتمام الطلاق، إذ قد يفضي الاستمرار في الاتحاد الجمركي وإبقاء الحدود الإيرلندية مفتوحة، إلى حرمان ماي من عقد صفقات جديدة للتجارة الحرة مع الدول غير الأوروبية، يصر الاتحاد الأوروبي على وجود نوع من التفتيش والمراقبة على الحدود لحماية سوقه الموحد من المنتجات البريطانية التي لا تلتزم بمعاييرتلك السوق. وبينما يتطلع الجانبان إلى ضرورة الإبقاء على الحدود مفتوحة، من دون الاتفاق على كيفية تحقيق ذلك، عمدت ماي، بعدما نجت من حجب الثقة عنها بما يحصنها من الإقالة لمدة عام فيما قررت عدم خوض الانتخابات العامة في 2022، إلى مناشدة قادة الاتحاد الأوروبي تقديم تنازلات قد تنقذ اتفاق البريكست، بحيث تشمل ضمانات قانونية أوروبية ملزمة تحول دون بقاء بريطانيا عالقة إلى أجل غير مسمى في "شبكة الأمان" لمنع بناء حدود مادية مع أيرلندا.
ورغم تعميق الطلاق البريطاني الأوروبي من دون اتفاق لمعاناة الاتحاد الأوروبي عشية الانتخابات البرلمانية الأوروبية، التي ستبدأ بعد شهرين من إتمام ذلك الطلاق، في ظل تنامي احتمالات رحيل أنغيلا ميركل واهتزاز وضع إيمانويل ماكرون، وصعود الأحزاب الشعبوية والقوى اليمينية المتطرفة في بقية الدول الأعضاء، في الوقت الذي لم تعلن أية شخصية ملائمة ترشحها لمنصب رئاسة المفوضية الأوروبية، ما يعظم فرص الحركات المناهضة للفكرة الأوروبية في ولوج البرلمان الأوروبي المقبل، شرع البريطانيون والأوروبيون في التأهب للسيناريو الأسوأ المتمثل في الطلاق من دون اتفاق، توخيا لما يسمى "اتفاق عدم التوصل إلى اتفاق". ففي حين أعلن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، في ختام قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، أن دول الاتحاد ال27 قررت تكثيف استعداداتها لاحتمال خروج بريطانيا منه من دون اتفاق، بدأت بلجيكا وهولندا، اللتان تمتلكان موانئ مقابلة لبريطانيا، في توظيف مسؤولي الحدود وتعزيز مواردها استعداداً لانفصال غير موثق، تسعى حكومة ماي لتخصيص ثلاثة بلايين جنيه استرليني لمواجهة تداعيات الطلاق بغير اتفاق، فيما يناقش باقي أعضاء الاتحاد الأوروبي، في شكل غير رسمي، تمديداً محتملاً للفترة الانتقالية لخروج بريطانيا لمدة شهرين إضافيين.
نقلا عن الحياه اللندنيه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع