بقلم - بشير عبدالفتاح
ما إن انقضى عام كامل على استعانة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأربعة جنرالات متقاعدين لتولي مناصب حسّاسة في إدارته، حتى كشف عن مشروع إدارته لموازنة السنة المالية 2019، الذي تضمّن زيادة لافتة في النفقات العسكرية، وخفضاً معتبراً في مخصصات وزارة الخارجية.
ولوحظ رفع النفقات العسكرية من 612 بليون دولار في 2018 إلى 686 بليون دولار في 2019، بنسبة تفوق 10 في المئة. كما استحدث مشروع الموازنة الجديد 25900 وظيفة عسكرية، وشمل استثمارات ضخمة في مجالات الطائرات والسفن والمنظومات البرية والدفاع الصاروخي. وانطوى المشروع، في المقابل، على تقليص هائل في الإنفاق على المهام الديبلوماسية والإنسانية، إذ خصص 39.3 بليون دولار لوزارة الخارجية والوكالة الدولية للتنمية، ما يعني انخفاضاً بنسبة 30 في المئة عن ميزانية عام 2017. وبرّر ترامب خطواته تلك بالرغبة في استعادة هيبة الولايات المتحدة وتقوية مؤسساتها العسكرية والاقتصادية، عبر استبقاء التفوق العسكري، خصوصاً في مواجهة روسيا والصين، وتعظيم قدرة واشنطن على استخدام القوة في مناطق استراتيجية أساسية وردع المعتدين. كذلك، قصد ترامب من استعانته بجنرالات سابقين في إدارته إلى تأكيد تمرده على المؤسسة الحاكمة والمنظومة السياسية التقليدية، فضلاً عن تعويض التواضع الواضح، بوصفه رجل أعمال غير مسيّس، علاوة على تعزيز ثقة غالبية الأميركيين في إدارته، على اعتبار أنّ رجال المؤسسة العسكرية يحظون بتقدير الناخبين، استناداً إلى معطيات عدة؛ أبرزها:
الإرث التاريخي، حيث حفلت التجربة الحضارية الأميركية بدور رائد للعسكريين في الحياة المدنية، لا سيما في شقها السياسي. وكما يؤكد علم العلاقات المدنية العسكرية، ففي أعقاب النضال للتحرر من الاستعمار، أو الحكم المستبد، وكذا بعد الحروب، فإن القادة العسكريين غالباً ما يجنحون للاضطلاع بأدوار مدنية وسياسية. في السياق ذاته، نشر معهد المشروع الأميركيAmerican Enterprise Institute في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تقريراً أكد أن من بين أول 25 رئيساً للبلاد، كان هناك 21 من ذوي الخلفية العسكرية، في مقدمهم جورج واشنطن، أول رئيس للدولة وأحد آبائها المؤسسين. ومنذ الاستقلال، ظل أداء الخدمة العسكرية مسوغاً رئيساً لتقلد الوظائف العامة، فيما كانت الرتبة العسكرية معياراً للوطنية ومؤهلاً لاعتلاء المناصب المهمة.
ومع انتهاء الخدمة العسكرية للمجندين أو تحول العسكريين المحترفين العاملين إلى محاربين قدامى، فإن بعضهم يتوجه إلى الخدمة المدنية، خصوصاً داخل أروقة الحكومة، الأمر الذي بدأت ملامحه تبزغ إبان الحرب الأهلية والثورة، ثم في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وهو توجه لم يقتصر على الرجال فحسب، وإنما طال، وإن بدرجة أقل، المحاربات السابقات اللائي مثّلن نسبة 10 في المئة من مجموع السكان، وتقلدن نحو 1 في المئة من المناصب الحكومية البارزة، إذ يشغلن حالياً 37 موقعاً حيوياً ما بين نائبات في الكونغرس، أو مستشارات في مؤسسة الرئاسة والوزارات المختلفة. ودائماً يتوقع المواطنون الأميركيون ممن لديهم مثل هذه الخبرات القتالية والإدارية الفائقة قدرة أكبر على قيادة البلاد نحو الأمن والسلام والتنمية، ومن ثم يشعرون بطمأنينة عند اختيار ذوي الخلفية العسكرية لمناصب تنفيذية قيادية أو انتخابهم للكونغرس، الذي باتوا يمثلون نسبة 14 في المئة من إجمالي أعضاء مجلسيه.
غير أن ترحيب أميركيين كثر بتقلد عسكريين سابقين مناصب قيادية، لم يحل دون بروز أصوات مناهضة لذلك التوجه. فتاريخياً، أسهمت نقاشات ما بعد حرب فيتنام بشأن عمل العسكريين الأميركيين بالسياسة في اتساع الفجوة، ولو نسبياً، بينهم وبين النخبة السياسية. كما شهدت سنوات ما بعد الحرب الباردة تراجعاً لافتاً في تقلد ذوي الخلفية العسكرية المناصب القيادية وعضوية الكونغرس، لأسباب عدة، من أبرزها تناقص أعدادهم قياساً إلى إجمالي عدد السكان، لاسيما بعد تقليص حجم القوات المسلحة عقب انتهاء تلك الحرب، إضافة إلى انخفاض أعداد راغبي التطوع بالخدمة العسكرية في شكل ملحوظ. وهذا أدى بدوره إلى تراجع أعداد النواب ذوي الخبرة العسكرية جراء الكلفة الباهظة للحملات الانتخابية، فضلاً عن تواضع قدرتهم على اكتساب الخبرات السياسية التي تؤهلهم لاعتلاء مناصب مفتاحية في الحكومة الفيدرالية.
واليوم، يرى مراقبون أن انتخاب ترامب واعتماده على عسكريين سابقين في إدارته، يحمل في طياته مخاوف من سطوة النزعة الأمنية العسكرية على صناعة القرار الأميركي، ولا يتورع هؤلاء عن إبداء تشككهم في امتلاك العسكريين الكفاءة التي تخولهم إدارة وزارات ومؤسسات بيروقراطية مدنية بكفاءة، كما يرصدون في سير ترامب على هذا الدرب مخالفة للمبدأ الذي رسّخه الآباء المؤسسون عندما صاغـوا الدستور في العام 1789، والذي يؤكد ضرورة إسناد المراكز الحيوية في السلطة إلى كوادر مدنية بغية تعزيز تبعية العسكريين للمدنيين وضمان رقابة السلطة المدنية على المؤسسة العسكرية. فيما تطرح تساؤلات محرجة بشأن وعود لترامب إبان حملته الانتخابية، تتعلق بـ «تنظيف المستنقع من الزواحف الكاسرة». فرغم أنه سبق لجنرالات مثل أندرو جاكسون ودوايت أيزنهاور، أن تولوا رئاسة الولايات المتحدة، فيما تقلّد كل من ألكسندر هيغ ثم كولن باول وزارة الخارجية، إلا أن هؤلاء توزّعوا في شكل فردي على عدد من الإدارات المتعاقبة ولم يتركزوا مجتمعين أو بأعداد كبيرة في إدارة واحدة، مثلما يفعل ترامب. كذلك، أبدى ساسة وخبراء أميركيون قلقهم من أن تفضي عسكرة ترامب للسياسة الأميركية إلى تراجع القوة الناعمة للولايات المتحدة إثر تقلص قدراتها الديبلوماسية وانكماش مكتسباتها الوطنية، علاوة على إضعاف مبادئ الدستور والرقابة المدنية على الحكومة، خصوصاً مع وجود رئيس يفتقر إلى الخبرة السياسية وينظر إلى قضايا الخارجية والسياسات الدفاعية من منظار عسكري واقتصادي صرف.
تبقى الإشارة إلى أن تطعيم ترامب إدارته بعسكريين سابقين ورجال مال وأعمال، يحمل في طياته إشارات، إلى أن قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان لن تحتل موقعاً مهماً ضمن أولويات السياسة الخارجية في ظل تلك الإدارة. فبينما لم يعين ترامب حتى الآن مساعدا لوزير خارجيته لشؤون الديموقراطية وحقوق الإنسان، قدّمت السفيرة إليزابيث شاكلفورد في السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، استقالتها إلى الوزير تيلرسون، احتجاجاً على ما وصفته بـ «لا مبالاة» الإدارة الأميركية تجاه هذا الملف، مستشهدة بدعوة تيلرسون موظفي الوزارة في الثالث من أيار (مايو) الماضي، إلى عدم التشبث بتلك القضايا حال تعارضها مع المصالح الأميركية. ونددت السفيرة بإمعان تيلرسون في الاستعانة بعسكريين سابقين، فضلاً عن تصاعد دور البنتاغون على حساب وزارة الخارجية بإيعاز من ترامب وتقبّل مِن وزير الخارجية.
نقلا عن الحياه اللندنيه