توقيت القاهرة المحلي 02:08:28 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الإبادة الجماعية حرفة وتراكم خبرات

  مصر اليوم -

الإبادة الجماعية حرفة وتراكم خبرات

بقلم - مأمون فندي

«باسم كلمات الرب التي نتشاركها في الصلاة، أطلب منكم مسامحتنا على تجاوزاتنا وذنوبنا. فمن دون ذكرى واعية وأسف واعتذار، لا يمكن أن يكون هناك تصالح»، كلمات قالتها وزيرة التعاون الاقتصادي والتنمية الألمانية هايدماري ويكزوريك-زول، في حفل مرور مائة عام على الإبادة الألمانية لقبائل «الهيريرو» وقبائل «الناما» فيما يعرف الآن بدولة ناميبيا، التي كانت تحت الاحتلال الألماني الاستيطاني الذي بدأ رسمياً في مؤتمر برلين الذي عُقد بين عامي 1884 و1885.

القصة ببساطة هي ما نراه اليوم في غزة مضافاً إليه تراكم الخبرات والاحتراف في القسوة والقتل وسرعته مع تقدم تكنولوجيا الموت؛ استعمار استيطاني واستيلاء على أراضي أهل البلاد الأصليين بالقوة، وتمرد ومقاومة من قبل أصحاب الحق.

عندما زادت حدة الرفض والتمرد للمستوطنين المغتصبين في ناميبيا، عيّن الإمبراطور الألماني آنذاك فليهلم الثاني، الجنرال لوثر فون تروثا للقضاء على حركة التمرد في ناميبيا، كما تريد إسرائيل القضاء على «حماس» في غزة، وتمت محاصرة القبائل في منطقة ووتربيرغ التي تشبه غزة، وتم إغلاق جميع الطرق حتى لا يهرب «المخرّبون»، (طبعاً سمعت هذا الوصف من جالانت ونتنياهو)، ثم بدأت الإبادة الجماعية لقبائل «الهيريرو» وقبائل «الناما» بكامل قوتها في منتصف أغسطس (آب) 1905. لا مفر سوى الاستسلام أو الموت، وتم ربط الناس في السلاسل وقتلهم بعشرات الآلاف. ولو تنبه العالم لما فعله الألمان في ناميبيا، لما كان هناك هولوكوست أو أفران غاز ومحرقة لليهود. كانت ناميبيا ناقوس خطر لجرم كبير سيحدث في مكان آخر، ترى ما جرس الإنذار الذي تطلقه غزة للعالم اليوم، وما الأخطر الذي لم ينتبه إليه العالم في إبادة غزة وما تبعاته؟

أكتب هذا المقال وأنا ممن وثقوا وصدقوا القيم الغربية، ولكني أكاد أفقد الثقة في كل المنظومة القيمية التي أُعجبت بها عندما هاجرت إلى الولايات المتحدة ومن بعدها أوروبا، ولم أعد أصدق أن قيم هؤلاء لها علاقة بأفعالهم، ربما كان في داخلي أمل التوبة عند الألمان أو الإنجليز عن الفظائع التي ارتكبوها في حق الإنسان الأفريقي، ولكن يبدو أنني لست محقاً في ذلك. ففي قصة ألمانيا لم يكن هناك اتفاق حتى على ما قالته الوزيرة الألمانية من نغمة تصالحية مع أهل ناميبيا بعد مائة عام من الجُرم، بل اختلف معها وزير الخارجية آنذاك يوشكا فشر برفض أي مصالحة أو تعويضات عن نحو 60 ألف قتيل من قبائل «الهيريرو» وحدهم، ولا اعتذار عن معسكرات التعذيب والشغل الشاق، لا شيء. لا رغبة لدى جزء كبير من نخبة ألمانيا للاعتراف بالذنب، فكيف اعترف الألمان بذنبهم تجاه اليهود، ورفضوا الاعتذار في حالة السود ولو باسم الرب المشترك بينهم؟ أليست مائة عام كافية كفرصة للألمان للاعتراف بحملات الإبادة في أفريقيا، وكم عاماً سيحتاج الإسرائيليون ليعترفوا بحملات إبادتهم تجاه الشعب الفلسطيني؟

أما غزة الإنجليزية، فهي ترتبط بالاستعمار البريطاني الاستيطاني في كينيا، الذي أيضاً اعتمد المذابح والشنق والإبادة تجاه أهل البلاد الأصليين. وكما في فلسطين كان الأمر في كينيا، ففي عام 1945، كان القوميون مثل جومو كينياتا (المقابل لمحمود عباس من الاتحاد الأفريقي الكيني) يضغطون على الحكومة البريطانية من أجل الحقوق السياسية والمدنية، في البحث عن اتفاق يشبه أوسلو 1993 لإزالة المستوطنات وتوزيع ملكية الأراضي إلى أصحابها مرة أخرى، ولكن لا جدوى.

في المقابل لكينياتا وجماعته كان هناك الفريق الكيني المتشدد والمعروف بجماعة «الماو ماو» (التسمية بريطانية وليست محلية)، وهي أقرب شبهاً إلى جماعة «حماس» في غزة الآن. داخل الاتحاد الأفريقي الكيني شكّلوا مجموعة أكثر تشدداً.

في عام 1952، تحالفت جماعات المقاتلين من «كيكويو»، مع مقاتلين من مجموعتين عرقيتين أخريين هما «إمبو» و«ميرو»، وهاجموا المستوطنين البيض، شيء أقرب إلى تحالف «حماس» مع «الجهاد الإسلامي» وكانت جماعة «الماو ماو» جماعة عقائدية، إذ يقسم أفرادها على الالتزام بقضيتهم مثل «كتائب القسام».

وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 1952، بدأت حملة إبادة «الماو ماو»، التي استمرت حتى عام 1960 وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الكينيين. وفي الوقت الذي كان يتابع فيه البريطانيون احتفالات اليوبيل الذهبي للملكة إليزابيث، كنت أتابع محاكمة في بريطانيا ضد جرائم الحرب التي ارتكبتها الإمبراطورية في كينيا، ومنها اعتقال نحو مائة ألف كيني من عرق واحد لمدة تصل إلى 10 سنوات دون محاكمة. ورغم كل هذه الجهود لكشف حقائق الإبادة الجماعية في كينيا، فإن بريطانيا لم تعترف إلا بالنذر اليسير من التعويضات لدى ورثة «الماو ماو» بما يساوي 9 ملايين من الجنيهات.

نحن أمام كارثة أخلاقية هنا. فلماذا تتوقع أن تتعاطف بريطانيا مع الفلسطينيين في غزة؟

هل كانت جماعات «الماو ماو» في كينيا إسلامية؟ وهل كانت قبائل «الناما» وقبائل «الهيريرو» إسلامية؟ وهل مفيد أن ننظر إلى آيديولوجية المقاومة أم أن ننظر إلى آيديولوجية المحتل والقاتل؟

في حديث مع الصديق الدكتور علي عبد اللطيف أحميده مؤلف كتاب «الإبادة الجماعية في ليبيا والتاريخ الخفيّ للاستعمار» (Genocide in Libya: Shar, a Hidden Colonial History) المنشور عام 2020، والذي قدمت عرضاً له في هذه الصحيفة (18 أبريل/ نيسان 2021)، قال لي إن النازيين الألمان كانوا يرسلون البعثات للتعلم من إتقان القتل في ليبيا الذي يقوم به الإيطاليون. أشار إلى أن الإبادة الجماعية حرفة عند النازيين وليست عملاً عادياً أو حرباً عادية. وقال: «ما يحدث فى غزة هو إعادة إنتاج لإبادة جماعية مثلما قام الفاشيون الطليان فى ليبيا عام 1929، ولكن غياب المساءلة والمحاكمة يقود إلى تسميم الذاكرة المعاصرة».

من هذا العرض السريع، ندرك أن ما يحدث في غزة اليوم هو تراكم خبرات ألمانية وإيطالية وإنجليزية وإسرائيلية في إتقان تنفيذ المجازر والإبادة الجماعية، ولذلك اجتمعت الدول ذاتها في تأييد مباشر للحملة الإسرائيلية للإبادة الجماعية، ومعها فرنسا التي ارتكبت ما هو أفظع خلال أكثر من قرن وربع القرن في الجزائر. فقط الأميركيون كدولة (بعيداً عمّا جرى للهنود الحمر قبل قيام الدولة) فهم جدد في هذه المهنة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الإبادة الجماعية حرفة وتراكم خبرات الإبادة الجماعية حرفة وتراكم خبرات



GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:14 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

جعجع يُطالب حزب الله إلقاء سلاحه لإنهاء الحرب مع إسرائيل
  مصر اليوم - جعجع يُطالب حزب الله إلقاء سلاحه لإنهاء الحرب مع إسرائيل

GMT 08:31 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك
  مصر اليوم - الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 00:04 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
  مصر اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 14:07 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

"يوتيوب" يختبر خاصية جديدة تعمل بالذكاء الاصطناعي
  مصر اليوم - يوتيوب يختبر خاصية جديدة تعمل بالذكاء الاصطناعي

GMT 08:11 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

هيفاء وهبي بإطلالات متنوعة ومبدعة تخطف الأنظار

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2018 الإثنين ,16 إبريل / نيسان

المدرب الإسباني أوناي إيمري يغازل بيته القديم

GMT 01:04 2021 السبت ,25 كانون الأول / ديسمبر

جالاتا سراي التركي يفعل عقد مصطفى محمد من الزمالك

GMT 05:34 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

تعرف على السيرة الذاتية للمصرية دينا داش

GMT 20:42 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

طريقة عمل جاتوه خطوة بخطوة

GMT 23:05 2020 الخميس ,24 كانون الأول / ديسمبر

يونيون برلين الألماني يسجل خسائر بأكثر من 10 ملايين يورو

GMT 02:11 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

طبيب روسي يكشف أخطر عواقب الإصابة بكورونا

GMT 09:43 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كباب بالزعفران
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon