بقلم: مأمون فندي
هذا ليس مقالاً عن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك أو عن ابنه جمال الذي كان مرشحاً لوراثة عرش أبيه في حكم مصر، ولكنه الحلقة الثانية من مقالي السابق عن علاقة العمران بالسلطة، سواء أكانت سلطة ديكتاتورية، أو ديمقراطية أو منزلة ما بين المنزلتين.
أنا ممن يرون أنه لم تكن هناك نية لمبارك في توريث الحكم لابنه، وما النوايا هي بشغل الباحث الاجتماعي، فلو خبرنا النوايا لتحول علم السياسة إلى واحد من العلوم البحتة مثل الفيزياء والرياضيات، علم السياسة أقرب إلى الفنون منه عن قربه من العلوم البحتة. لذا يصبح عبثاً أن نتحدث عن نية مبارك في توريث الحكم لابنه، لكنني أدعي أن طول مدة بقائه في قصور بنتها أسرة محمد علي باشا ربما خلقت لديه وعياً ملكياً زائفاً، وهذا ما أتحدث عنه عندما أتحدث عن علاقة العمران بالسلطة. القصور تمنح مخيال الملك للقابع فيها، لكنها لا تستطيع وحدها أن تمنح أصحابها ملكاً، فالقابع في القصر لا يستطيع توريثه، إذا ما آل إليه القصر بوضع اليد، ولم يكن امتداداً طبيعياً لملك مشروع ويحظى بقبول المحكومين. وكل قصور أسرة محمد علي التي عاش فيها مبارك وأسرته، من قصر عابدين إلى قصر الطاهرة إلى قصر التين، كلها قصور عاش فيها مبارك رئيساً لمدة ثلاثين عاماً وزادت تسعاً إذا ما أضفنا الفترة التي كان فيها نائباً للرئيس السادات. طول مدة الحكم غير المسبوقة في التاريخ المصري لرئيس (الإنسان) لا لملك (الزمان) وعلاقتها بالعمارة (المكان) هي التي خلقت وعياً ملكياً زائفاً عند مبارك وأسرته، وثلاثية الاتساع والزمان والمكان والعلاقات بينها هي همي الحالي في فهم علاقة العمارة بالسلطة.
ولكن قبل الحديث عن علاقة قصور مصر الملكية وعلاقتها بصناعة وعي ملكي أو توريثي عند مبارك وعائلته، لا بد من التوقف لحظة عند شرعية هذه القصور وكيف آلت إلى ساكنيها؟ تلك قصور أخذها «جماعة يوليو» من الملك فاروق بوضع اليد، وهذا تعبير نستخدمه في مصر عندما يحتل أحد أرض غيره أو مسكن غيره من دون سند قانوني مشروع. ومشكلة وضع اليد كإثبات للأحقية أو الملكية، من المشاكل الخطيرة التي تواجه المجتمع المصري بشكل مثير للاهتمام، وربما الظاهرة ذاتها موجودة في كثير من مجتمعاتنا العربية وعلى كل مستوياتها. فمثلاً تجد أن رجلاً يقف في الشارع يطالبك بأن تدفع له لأنك تركت سيارتك عنده، هذا الرجل قرر بمفرده أنه يملك هذا الرصيف من الشارع، كذلك الشحاذون يقتسمون الحارات فيما بينهم فلا يستجدي أحدهم في منطقة تقع في حيازة شحاذ آخر. كما أن الرجل أو المرأة القائمة على حمام الرجال أو حمام النساء، في مطار القاهرة، تطلب منك نقوداً إذا استخدمت هذا الحمام، الذي يفترض أن تكون ملكيته للدولة. الرجل الذي يقف في حمام المطار، قرر خصخصة الحمام. وهذا ينطبق على كثير من المؤسسات التي تخصخصت من خلال وضع اليد، وليس القانون. تسول الحكم لا يختلف كثيراً عن أي نوع من أنواع التسول. ومصر، بحالتها الحالية هي سجينة ذهنيتين: التسول والتوسل.
ظاهرة وضع اليد كإثبات للأحقية أو الملكية، تترافق معها ظاهرة أكثر شيوعاً وهي التوريث، تشكلان معاً معمار الحكم في مصر اليوم. في تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحالي طفت على سطح الحوار السياسي في مصر، قصة توريث الحكم، واستمر بعض المصريين في إذكائها، ومحاولة الارتفاع بمصداقيتها لدرجة ترقى فيها الشائعة إلى حقيقة اجتماعية. محاولة الحديث عن توريث من في القمة هي بدافع تحويل الأنظار عن عمليات التوريث اليومية التي تحدث في وسط الهرم الاجتماعي وفي طبقات المجتمع المختلفة؟! في الثقافة، وفي الإعلام، والأحزاب، وفي الداخلية، والخارجية؟! كان يتمنى البعض أن يحل جمال مبارك محل والده لإضفاء الشرعية على التوريث من أسفل، وهو عمل مصري يحدث كل يوم! أي بدلاً من أن ينكشف أمر عمليات التوريث المختلفة، يحاول البعض أن يورث قمة الهرم السياسي حتى لا يبدو ما يحدث في سفح الهرم الاجتماعي أمراً شاذاً. وبذلك سيصبح ما يقوم به نمطاً سائداً من قمة هرم السلطة حتى سفحه، بدلاً من كونه عملاً يمارس من أسفل، ولكنه مرفوض وتنقصه الشرعية من أعلى.
المخيال الاجتماعي The Social Imagination في مصر، رغم بعد قشور الحداثة التي تراها في المدن الكبرى، هو مخيال مبني على آيديولوجية العائلية ونظام القرابة والتوريث، وبالعائلية هنا أعني العائلية اللاأخلاقية amoral familism التي تحدث عنها الأنثروبولوجي العظيم إدوارد بانفيلد في كتابه الذي يحمل الاسم ذاته. عائلية تهتف للدولة نهاراً، وتسرق أضواء الشوارع وأعمدة الكهرباء ليلاً. العائلية سافلة الطباع، نظام بدأ يتمكن من الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر، فالناظر إلى أحزاب المعارضة في مصر لن يأخذ من الوقت طويلاً حتى يكتشف أنها أحزاب عائلية في المقام الأول تسيطر عليها أسر سياسية بعينها، لا فرق في ذلك بين أحزاب اليسار وأحزاب اليمين، لا فرق فيها بين الإسلاميين من ناحية والشيوعيين المصريين من ناحية أخرى. ألم يكن الحديث في أروقة حزب الوفد منذ عامين عمن يخلف فؤاد باشا سراج الدين، رحمه الله، هل هو ياسين سراج الدين أم أحد أقاربه؟! ألم ينشق الحزب إلى أجنحة مرتبطة بعلاقات القرابة بعد فوز نعمان جمعة برئاسة الحزب؟! الشيء نفسه حدث في حزب العمل الإسلامي في توريث أمانة الحزب من المرحوم عادل حسين إلى ابن أخيه مجدي أحمد حسين، ومجدي حسين هو أيضاً ابن أحمد حسين رجل حزب مصر الفتاة، والقمصان الزرق ومشروع القرش. الشيوعيون المصريون أيضاً رغم كل حديثهم عن التوافق الفكري بين أبناء الطبقة العاملة، فإن معظم من في قمة الحزب الشيوعي المصري هم من الطبقة الأرستقراطية القديمة... من سكان الزمالك والمعادي تربطهم علاقات دم ونسب وزيجات أكبر بكثير من الرباط الفكري، وقد يكون هذا السلوك العائلي لبعض الشيوعيين واليساريين في مصر ناتجاً عن حالة تهميشهم سياسياً، ولكن تبقى سمة الارتباط العائلي والتوريث هي السمة السائدة في بناء مؤسساتهم السياسية، فالنقاشون مثلاً (فريدة النقاش وزوجها المرحوم حسين عبد الرازق ورجاء النقاش ومن صاهرهم من العائلات هم عماد حزب التجمع التقدمي). الإسلاميون أيضاً من الإخوان ما زالوا ينظرون إلى عائلة حسن البنا كمرجع، وأيضاً أقارب سيد قطب، وكذلك أقارب زينب الغزالي، حتى عندما بدأ الحديث عن أيمن الظواهري رسم كثير من المصريين له شجرة عائلة تأخذه إلى جده الشيخ الظواهري، أحد مشايخ الأزهر السابقين، وكأن التفسير الإسلامي وبناء الأفكار الإسلامية يتم تلاقحهما عبر علاقات الدم، لا علاقات الفكر.
إنه معمار القرابة والعائلية الذي تبقى فيه علاقات الفكر الأساسية لبناء نظام ديمقراطي قابعة في مخزن ضيق في قبو معمار القرابة، وأحياناً تكون الأفكار مجرد طلاء لامع على قمة هرم السلطة يخفي تحته بناء حجراً ومتحجراً من علاقات بدائية كتلك التي تراها في مجاهل القارة الأفريقية. وللحديث بقية.