بقلم: مأمون فندي
معظم أصدقائي يسافرون في الصيف مكانياً إلى الجنوب الفرنسي، أو الجنوب الإسباني، أو الإيطالي، ولكنني قررت السفر هذا الصيف، في الزمن، إلى بغداد في القرنين التاسع والعاشر الميلادي، وما بعدهما بقليل، سفر في المساحة الفكرية الممتدة من عصر أبو يوسف بن إسحاق الكندي (ولد 805 ميلادية ومات 875) وسيادة الهندسة والحساب لشرح علاقة اللاهوت والناسوت ومجمل الكون، أي علاقة الروح بالجسد وبالعالم، إلى زمن أبي نصر محمد الفارابي (ولد في 874 للميلاد ومات 950) وسطوة المنطق الأرسطي وعلوم اللغويات لشرح ذات العلاقات المعقدة، رحلة ذهنية نقدية، لا رحلة ماضوية كرحلات الإسلامويين، في الزمن، مركزها مكتبة «بيت الحكمة»، ذلك الكنز الفكري للبحث والتأليف والتفكير التي لا يضاهيها في العصر الحديث سوى «جامعة كالتيك» في كاليفورنيا و«إم آي تي» في بوسطن. كان الهدف من تلك الرحلة الصيفية الزمانية هي التعرف على عصور التنوير في ثقافة تآكلت، والخصائص التي ميزت تلك الحقبة، وهل يمكن لنا تحديد ملامح في ثقافتنا الحالية يمكن أن تكون بذرة لانطلاقة حضارية مشابهة أو قريبة من بغداد المأمون، ربما هذا يساعدنا في الإجابة على سؤال مفاده لماذا وصلنا إلى هنا؟ هل لأن الإسلامويين في صحوتهم تجنبوا التعرف على ثلاثة قرون من العصر العباسي مثلاً؟ ولماذا تجنبوا عصور التنوير الإسلامية؟ وهذا سؤال كبير يحتاج إلى مقالات مستقلة. وهل يمكننا الوصول إلى شيء أشبه بما كان هناك؟ دائماً ما كان الإنسان مشغولاً بفكرة الترحال في الزمن، ونحن في منطقتنا العربية متميزون في ذلك، سافر الكثير منا إلى عصر الخلافة الإسلامية حتى عصور الانحطاط، ولم يتوقفوا عند محطات الكندي والفارابي، وأنا لا أريد السفر إلى الماضي للبقاء فيه، كما فعل الإسلاميون من قبل، ولكن بهدف الوصول إلى حالة الانفلات في الزمن، والقدرة على الحركة إلى الوراء وإلى الأمام، أي الفكاك الذي يسمح بالذهاب إلى الماضي بهدف العودة إلى المستقبل، وليس إلى الحاضر فقط.
الهندسة والرياضيات وعلوم المنطق واللغويات هي سبيلنا إلى ذلك.
أساسي في تلك الفترة من العصر العباسي هو تلك الرغبة الملحة في المعرفة، ولم يكن هذا توجه العلماء فحسب، بل كان أيضاً توجه الخليفة الذي سمح بمجال واسع لحرية التفكير، أيضاً كان أساسياً في تلك الفترة انفتاح المسلمين وقدرتهم على الإجابة على أسئلة غير المسلمين حول أسئلة اللاهوت المختلفة، فكان الكندي يبحث عن مكان الدين في فلسفة أرسطو، فكتب كتاباً بعنوان «لاهوت أرسطو»، الفكرة كانت المواءمة ما بين الفلسفة والدين، وما بين العلم والدين، وبجرأة غير مسبوقة، أو حتى لاحقة. في تلك الفترة كان الفيلسوف العربي الكندي، ومن حوله، يتمتعون بثقة حضارية، على عكس ما نراه اليوم من حضارة وثقافة خائفة ومترددة، لا تعرف من هي أولاً لكي تبدأ رحلتها في معرفة الآخر، ذلك ما اصطلح عليه العوام بعيونهم الصافية، وأطلقوا عليه «عقدة الخواجة»، بينما لم يتردد الخواجة في القرون الوسطى في ترجمة الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم.
أعتقد أن كثيرين منا حاولوا رحلة الحركة في الزمن للتعرف على عصور التنوير الإسلامية، وحزن كثيراً على حريق مكتبة بغداد، وأخرج يوسف شاهين فيلماً عن ابن رشد عندما واجهت التيارات الإسلامية دولة مبارك في مصر، ولكن هذا النوع من البحث عن النقاط المضيئة في لحظات الأزمة ما يلبث أن يختفي إذ لم تتبنَ دولة مبارك قيم التنوير، بل رأت فيه وقوداً لحربها مع المسافرين في ماضٍ آخر.
الرحلة في الزمن تتطلب رغبة حقيقية في نقد الذات أولاً، ومحاولة التعرف على نقائص زماننا، ليس من أجل بناء مجتمع أفضل فقط، بل ومن أجل سياسة أفضل وثقافة أفضل.
الترحال في الزمان الإسلامي أمر مثير وممتع، ولكن بتلك العصور ظلمات يجب أن نتجاوز عنها. في السفر المكاني أسافر بحقيبة واحدة، وأشتري ما أحتاج في الطريق، وفي العودة أترك ما يزيد عنها في الفندق، وكذلك في السفر الزماني أيضاً، أسافر خفيفاً، فلا أتوقف لتحميل بضاعة من عصور الظلام، فقط أصاحب أناساً من نوعية الكندي والفارابي والرازي، أما غيرهم ممن يحسبون على تاريخ الإسلام في عصور الظلام، فلا صداقة تربطني بهم، ولا أسافر معهم، لا في رحلة الصيف، ولا رحلة الشتاء.