توقيت القاهرة المحلي 13:20:16 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ثقافة الإلغاء

  مصر اليوم -

ثقافة الإلغاء

بقلم:مأمون فندي

من آنٍ لآخر تطفو على السطح في الولايات المتحدة مفاهيم مختلفة تشكل الحوار في العالم نظراً للقوة الثقافية للولايات المتحدة وقدرتها على الترويج لثقافتها، السيئ منها والجيد، ومن المفاهيم الجديدة المسيطرة على الساحة الأميركية هذه الأيام هو ما يعرف بثقافة الإلغاء (cancel culture) الذي تجلَّى بشكل واضح بعد حركة (الأرواح السوداء مهمة black lives matter) على اليسار أو حركة الشاي (tea party) وما قبلها من سؤال الصوابية السياسية (political correctness) على اليمين. ولكن السؤال هو ما علاقة مفاهيم كهذه بالقارئ العربي؟ وهل الأميركان سابقون أم لاحقون في ثقافة الإقصاء أو الإلغاء؟ وهل التكفير في ثقافتنا هو أحد تجليات الإلغاء أم أنه هو الإلغاء في أقصى صوره؟
بداية، سياسة الابتعاد أو الفرار من المجذوم هي جزء من تراثنا الإسلامي، وكذلك في ذات التراث حديث آخر يدعو لعدم التطير أو الابتعاد والنظر إلى منابع الأمور. كذلك أيضاً في الشعر العربي هناك أحاديث كثيرة عن الجمل الأجرب، من طرفة بن العبد إلى غيره من الشعراء. والبعير الأجرب يطلى بالقار علامةً وتمييزاً ليسهل الابتعاد عنه أو إقصاؤه، إذن ليس الأميركان من ابتدع ثقافة الإقصاء أو الإلغاء، فنحن سباقون في هذا بأشكال مختلفة، من الجمل الأجرب إلى الفرار من المجذوم إلى التكفير كحالة قصوى.
ولكن ما هو مفهوم «كانسل كلتشر» أو ثقافة الإلغاء في سياقها الأميركي حالياً؟
الفكرة تتلخص في الموت الاجتماعي أو الافتراضي لمن يزل لسانه في أمور مثل سؤال العنصرية أو سؤال معاداة السامية، حتى لو كان الأمر قد حدث سابقاً لحركة الإلغاء الثقافي المعاصرة. فمثلاً تقلق بعض الجامعات من تدريس فلسفة مارتن هايدغر مثلاً، بدعوى أنه كان مؤيداً للنازية أو له أقوال فسرت على أنها داعمة للنازية، مع أن جسم الأفكار الفلسفية التي طرحها هايدغر شديدة الأهمية وأثرت في فلاسفة جاؤوا من بعده مثل ميشيل فوكو وجاك داريدا وهابرماس، وغيرهم كثيرون حتى إدوارد سعيد كان متأثراً بهايدغر في كثير من أعماله.
ويمتد الأمر من ناحية اليسار لاعتراض بعض المثقفين السود أو من أصول أفريقية على تدريس الروائي العظيم وليم فوكنر، وكذلك مارك توين ككتاب جنوبيين ممن قبلوا بفكرة العبودية. والحقيقة أن من يقرأ أعمال توين وفوكنر في سياقها التاريخي يدرك أن الرجلين كانا أكثر تقدمية في أعمالهما بأميال وسنوات ضوئية عن مجتمعيهما. الفكرة هي أنه في ثقافة الإلغاء يتم إلغاء السياق التاريخي أولاً، وبهذا نقيّم الشخص على جملة واحدة أو كتاب واحد، وننسى كلياً الشخص أو مجمل أعماله وأفعاله، فأحياناً تكون السقطة جزءاً طفيفاً جداً من مجمل الشخص، لا تصل إلى نصف في المائة، ولكننا بدافع الإلغاء والإقصاء نحطم السياق، ومعه صاحبه، والأمثلة كثيرة، مثل الحديث عن الموسيقي العظيم فاغنر أو تولستوي وموقفه من القيصر إلى آخر ملامح ثقافة الإلغاء المعطلة للعقل.
في منطقتنا شاهدنا بأم أعيننا ما حدث للأكاديمي المرحوم نصر حامد أبوزيد ودعاوى الحسبة في مصر، للتفريق بينه وبين زوجته، ثم شاهدنا الاعتداء البدني على المرحوم والروائي العظيم صاحب نوبل في الأدب نجيب محفوظ والأمثلة كثيرة.
وبعد هذا السرد ترى ما الفرق بين ثقافة الإلغاء الأميركية، وبين ثقافة التكفير العربية؟
الاختلاف جدّ كبير، ففي الثقافة الأميركية ونتيجة طبيعة المجتمع، تجد ثقافة الإلغاء من يواجهها، كفكر يواجه فكراً آخر، والأهم في سياق قانوني يحمي حرية التعبير على إطلاقها، رغم رغبة كثيرين في المجتمع في تقييد هذا الإطلاق. وهذه هي النقطة المهمة. أما النقطة الأهم فهي أن النظام الديمقراطي وقدرته على الإدارة السلمية للتنوع والاختلاف لديه أدوات كثيرة لإدارة هذا الاختلاف، فعبقرية الأنظمة الديمقراطية هي قدرتها على تصحيح مسارها ذاتياً. أي في داخل كومبيوتر وسوفت وير الديمقراطية هناك برنامج داخل التصميم مهمته تصحيح المسار.
أما عندنا في الشرق فالقصة مختلفة لاختلافات المجتمعات والأنظمة السياسية، وينبغي ألا نطيل هنا، لأن القارئ يعرف مثلي عطب مجتمعاتنا ثقافة وسياسة، ما يجعل من فكرة العدول عن التكفير كواحدة من آليات الإقصاء أمراً صعباً، إلا إذا قرر النظام السياسي الانحياز لفكرة العدل والابتعاد عن قصة الجمل الأجرب والانتصار للتنوير والتنوع في المجتمع. ثقافة الإلغاء شرقاً وغرباً كارثة، ولكن الدرجات تختلف.
المهم في كل هذا الطرح هو أنه حال تعرضنا للحديث عن شخص نريد إلغاءه، أي تكفيره، لا بد أن ننظر إلى مجمل أعماله ولا نتصيد خطأً هنا أو هناك رغبة في الإلغاء، وبدافع بدائي قائم على ذهنية الانتقام.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ثقافة الإلغاء ثقافة الإلغاء



GMT 08:29 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

الإجابة عِلم

GMT 08:25 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

العرق الإخواني دساس!!

GMT 08:16 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

وزراء فى حضرة الشيخ

GMT 08:05 2024 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

نجاة «نمرة 2 يكسب أحيانًا»!!

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 13:09 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

دواء مضاد للاكتئاب قد يساعد في علاج أورام المخ
  مصر اليوم - دواء مضاد للاكتئاب قد يساعد في علاج أورام المخ

GMT 11:47 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

أشرف عبد الباقي يكشف أسباب ابتعاده عن السينما
  مصر اليوم - أشرف عبد الباقي يكشف أسباب ابتعاده عن السينما

GMT 09:51 2024 السبت ,08 حزيران / يونيو

أنواع مختلفة من الفساتين لحفلات الزفاف

GMT 06:29 2015 الإثنين ,28 كانون الأول / ديسمبر

قضية فرخندة مالك زادة تفضح ظلم القضاء الأفغاني للمرأة

GMT 19:55 2017 الإثنين ,09 تشرين الأول / أكتوبر

وفاة الفنانة فاتن الحناوي بسبب إصابتها بفشل كلوي

GMT 03:38 2017 الجمعة ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

وزارة التخطيط تؤكد أن 5000 فدان في الفرافرة جاهزين للزراعة

GMT 22:33 2016 الجمعة ,18 آذار/ مارس

طريقة عمل البوظة السورية

GMT 09:56 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

توقيع رواية "ودارت الأيام" في بيت السناري

GMT 12:56 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

Snapchat سيتيح للمستخدمين قريبا تغيير "اسم المستخدم" الخاص بهم

GMT 06:41 2021 السبت ,19 حزيران / يونيو

الأرجنتين يتخطى عقبة أوروجواي بهدف نظيف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon