توقيت القاهرة المحلي 09:57:05 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مشهد واحتفالية طريق الكباش

  مصر اليوم -

مشهد واحتفالية طريق الكباش

بقلم : مأمون فندي

مثل غيري، أُخذت بمشهد افتتاح طريق الكباش الذي يربط بين معبد الكرنك شمالاً ومعبد الأقصر إلى الجنوب، المشهد الذي حضره الرئيس عبد الفتاح السيسي وحرمه، مما أعطاه بعداً وطنياً وثقافياً مهماً. ولكن المشهد بالنسبة لي كان شخصياً أكثر من كونه مشهداً وطنياً أو محاوله إرسال صورة إلى الخارج.
الأقصر بالنسبة لي مسقط رأس، ومكان مخطط من أعلى، وليس من تخطيط البشر. ولأن أهل الشمال، جاءوا إلينا من أجل الافتتاح، ضروري أن يعرفوا كيف ولماذا نذهب إليهم في أيامنا العادية، وليس فقط في مواسم الاحتفالات. أسرد هنا بعض الملاحظات الشخصية كي يحس القارئ بطعم المكان ورائحته وطبعه وطباع أهله، ويتسنى لي أن أقول جملة مفيدة حول مشهد الاحتفال.
عندما تذهب إلى الأقصر، لا بد أنك مدرك أنك في بلد سيدي أبو الحجاج، صاحب المقام الذي يقف على الجنوب الشرقي من معبد الأقصر، وكلاهما مقام في المكان ذاته بعلاقات مختلفة عبر الأزمان. يُقام لسيدي أبو الحجاج في قلب الأقصر، وفي قلب المعبد، احتفالٌ سنويٌّ (مولد سيدي أبو الحجاج)، بالضبط كمشهد الأوبيت القديم الذي شاهده السيد الرئيس في العرض. وفي هذا المولد رمزية هي صورة لعالم الصعيد كما خبرته جملة، ولأهل الأقصر خاصة؛ ثنائية الضريح والمعبد، شرق النيل وغربه، الدنيوي والمقدس... فقريتنا، وهي جزء مركزي في الحضارة الأقدم المعروفة بنقادة الأولى (5500 - 4800 قبل الميلاد)، تقع في غرب النيل، حيث عالم غروب الشمس (عالم الرقاد والموت)، بينما المدينة ذاتها (الأقصر) تقع في عالم شروق الشمس (عالم الحياة)؛ يفصل النيل بيننا، بين عالم الحياة وعالم الموت، عالم السكك الحديد والثورة الصناعية والحداثة وما فعله القطار بإسراع في الزمان وإحساس بانكماش في المكان. عالمي لم يكن شرق النيل وتباشير الحداثة، عالمي كان عالم الرقاد ومدافن الفراعنة في وداي الملوك، كان عالمي هو المجتمع الزراعي في غرب النيل، وهذا هو العالم الذي خبرته، حيث ترى الفلاح ممسكاً بمحراث تجره بقرتان، كما الصورة المرسومة على جدران المقبرة الفرعونية التي تبعد عن حقله عدة أمتار، لا تحتاج إلى أن تنظر إلى تمثالي ممنون بين حقول القرنة لتدرك مغزى ما أقول؛ كأن الزمن قد توقف من يومها، وتجمدنا في حالة كهفية، حالة جمود أهل الكهف.
كنا نحيا في غرب النيل حياة أقرب إلى السبات، فما زالت محاريث أرضنا تجرها عجول الجواميس والبقر، كما كان الحال في عصر الفراعنة، وما زلنا ندفن موتانا بطريقة أشبه إلى طريقة أجدادنا القدامى، نضع في أكفهم القطع الفضية لدفع أجرة المركب لعبور النيل، كما هو مرسوم على جدران المعابد والمقابر وصفاً لرحلة الروح عبر مراكب الشمس، وما زلنا ندفن الأجنة غير المكتملة في آنية من الفخار نضعها تحت عتبة الباب، ولا ندفنها في المدافن، ولنا في ذلك أسبابنا، وتطوف النساء الراغبات في الحمل أو في إنجاب الذكور بمقام سيدي أبو الحجاج تارة، أو بالمعبد تارة أخرى؛ يختلط الفرعوني معتقداً مع الإسلامي ممارسة، وربما هذا لا يخص مسلمي الأقصر فقط، لكنه ينطبق على مسيحييها أيضاً. الإسلامي عندنا مختلط بالفرعوني إلى درجة تدهش من تعلم منا وسافر بعيداً.
وهناك أيضاً تداخل على مستوى الزمان بين الفرعوني والإسلامي. فإلى يومنا هذا، ما زالت في الليلة الختامية لمولد سيدي أبو الحجاج (التي أعتقد أنها ستفاجئ المصري القادم من الشمال بالدرجة نفسها التي ستفاجئ السائح (الألماني أو الهولندي) تحمل المراكب الشراعية على سيارة نقل من معبد الكرنك في شمال الأقصر (معبد الإله آمون رع) إلى معبد الأقصر جنوباً، حيث ضريح أبو الحجاج؛ الطقوس ذاتها التي كانت تقام للإله آمون رع عندما كان كهنة المعبد يحملون المراكب عبر طريق الكباش متجهين جنوباً... وكانت تُسمى مراكب الشمس؛ أي المراكب التي تأخذك إلى الإله رع الذي يرمز إليه قرص الشمس. مراكب لعبور نهر النيل الفاصل الجغرافي والذهني المتخيل بين العالمين، عالم الحياة في الشرق حيث بزوغ الشمس وعالم الرقاد والمغيب في الغرب. وأنا من العالم الأخير، عالم الحالة الكهفية التي يكون فيها الخط بين الله والعبد كامل الاستقامة، لذا تزاور الشمس عنا ذات اليمين وذات الشمال، لا ضرر ولا ضرار.
حضر السيد الرئيس عرضاً لمشهد الأوبيت أو الزيارة من الشمال عند الكرنك إلى الجنوب عند معبد آمون أو معبد الأقصر، ومقام سيدي أبو الحجاج، فالمكان يتَّسع للجميع؛ للولي والضريح والمعبد، لاحتفالية الولي ولمشهد احتفالية افتتاح طريق الكباش.
ما لم يره الرئيس هو الأقصر وما حولها، وهو صورة أبعد كثيراً عن المشهد الاحتفالي الذي رآه. كنت في الأقصر قبل زيارة الرئيس إليها، ورأيت الناس وهم يعملون بهمة في إعادة رصف الطريق من المطار إلى معبد الأقصر، حيث كان مقرراً أن يمر موكب الرئيس. رسم القائمون على الأمر في الأقصر ملامح مسرح سيُقدم عليه العرض. ولكن مثله مثل المسارح المفتوحة، تجد بعد مساحة المسرح بأمتار بقايا الأخشاب والأسلاك الكهربائية التي تقع خارج كادر الكاميرا؛ كنت أتمنى أن يرى الرئيس ما هو خارج الكادر، فهذا يستحق كثيراً من اهتمامه؛ حياة أهل المدينة وعلاقتهم بمشهد كان القصد منه تصدير صورة عن الأقصر.
الأصل هو الموضوع، وليس الصورة، وأتمنى أن يتعرف السيد الرئيس، ومن يديرون الأمر من القاهرة، على الأصل، وليس لديّ شك في أنهم قد يوجهون بإصلاحه، فالمدن بشر قبل أن تكون آثاراً للعرض.
المشهد كان مهيباً، وكما هناك طريق يربط بين معبد الكرنك ومعبد الأقصر، لا بد من فتح طريق آخر رمزي بين القاهرة والأقصر من ناحية، وبين الزمان الفرعوني والزمان الحديث من ناحية أخرى. لا يكفي أن نبهر العالم بالصورة، بل يجب أن نبهر أنفسنا بالأصل أولاً.
وما زال الرجل الأقصري وامرأته يمسكان بالمحراث بين تمثالي ممنون، كأن الزمن لم يتحرك قيد أنملة؛ مشهد كنت أتمنى أن يراه السيد الرئيس، ليعرف أن غرب النيل كما تركته حتشبسوت إلى جوار معبدها، أرض عذراء لم تصلها الحداثة بعد، وما وصل منها كان تشويهاً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مشهد واحتفالية طريق الكباش مشهد واحتفالية طريق الكباش



GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:14 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

جعجع يُطالب حزب الله إلقاء سلاحه لإنهاء الحرب مع إسرائيل
  مصر اليوم - جعجع يُطالب حزب الله إلقاء سلاحه لإنهاء الحرب مع إسرائيل

GMT 08:31 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك
  مصر اليوم - الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 00:04 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
  مصر اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 14:07 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

"يوتيوب" يختبر خاصية جديدة تعمل بالذكاء الاصطناعي
  مصر اليوم - يوتيوب يختبر خاصية جديدة تعمل بالذكاء الاصطناعي

GMT 08:11 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

هيفاء وهبي بإطلالات متنوعة ومبدعة تخطف الأنظار

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2018 الإثنين ,16 إبريل / نيسان

المدرب الإسباني أوناي إيمري يغازل بيته القديم

GMT 01:04 2021 السبت ,25 كانون الأول / ديسمبر

جالاتا سراي التركي يفعل عقد مصطفى محمد من الزمالك

GMT 05:34 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

تعرف على السيرة الذاتية للمصرية دينا داش

GMT 20:42 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

طريقة عمل جاتوه خطوة بخطوة

GMT 23:05 2020 الخميس ,24 كانون الأول / ديسمبر

يونيون برلين الألماني يسجل خسائر بأكثر من 10 ملايين يورو

GMT 02:11 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

طبيب روسي يكشف أخطر عواقب الإصابة بكورونا

GMT 09:43 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كباب بالزعفران
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon