بقلم: مأمون فندي
عندما وصلت القاهرة أول مرة، أدركت أنها مدينة مخططة (من أسفل)، على عكس مدن الجنوب بين الأقصر وأسوان وبينهما إدفو وكوم امبو، كلها مدن مخططة من السماء، أو مخططة (من أعلى).
في مدن جنوب مصر، كانت المعابد التي تربط العبد بربه وعلاقتها الوطيدة بالمكان والطبيعة أولاً، ومن ثم خططت حولها المدن. بينما القاهرة بدأ تخطيطها كفسطاط للعسكر الذين دخلوها، حتى المقامات الروحية الضخمة التي فيها، مثل مقام السيدة زينب ومقام الحسين، أتت لاحقاً في فترات تاريخية بعد تأسيس المدينة.
الزوار الأجانب ومعهم المصريون، يحتفلون بيوم تعامد الشمس على وجه رمسيس في معبد أبو سمبل في أسوان، في تمام الساعة السادسة وخمس وعشرين دقيقة صباحاً من يوم 22 فبراير (شباط) من كل عام، أو الساعة الخامسة وخمس وثلاثين دقيقة مساء من يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول) كل عام؛ حيث يتسلل شعاع الشمس لمسافة تقارب مائتي متر، ليستقر الضوء فوق وجه الملك رمسيس الثاني، كفيض من نور يرسم قسمات وجه الفرعون داخل حجـرته في قدس الأقداس في المعبد. وما تلك بالمنطقة الوحيدة في الجنوب المصري، إذ ترى هذا واضحاً في مثلث معبد الأقصر، ومعبد الكرنك، ومعبد حتشبسوت في غرب النيل، مثلث مرسوم من السماء، فالأقصر كما أسوان، المعابد كانت أولاً ثم أتت المدينة وكأنها مخططة (من أعلى)، ليس كالقاهرة أو مدن الشمال التي خططت (من أسفل) من الدنيا. لذلك لا يبني الجنوبيون بيوتهم في مواجهة النيل بخطوط متعامدة عليه، بل تسير حركة بيوتنا مع حركة النيل، لا نسير ضد التيار؛ بل معه. وهذا أقرب إلى فلسفة الداو (taoism) الصينية. نحن أقرب إلى خط الاستواء السماوي (celestial equator) منه إلى الأرضي.
الجنوبيون قبلوا التخطيط الروحاني لمدنهم، وانعكس ذلك على فلسفتهم في الحياة القائمة على الرضى والتسليم. لذا وإن كانت التنمية قليلة وبسيطة عندهم، فإنهم يدركون أن الرزق موجود لا ينقطع، يسري كما مجرى النيل؛ لأننا نسير في فلك الخالق مع النجوم والنهر.
المدن المخططة (من أسفل) مثل القاهرة، لا تمنح ساكنيها الثقة الحضارية أو القناعة؛ بل تمنحهم مزيداً من القلق والتوتر، وما تلك نقطتنا، فالنقطة عن علاقة الإنسان بالزمان والمكان، وتأثير كل ذلك على مسألة المواطنة والهوية.
المدن المخططة (من أعلى) تمنحك سلاماً داخلياً؛ لأنها تتقاطع مع الخطوط الفلكية للنظام الفلكي الكوني، ليس في مجموعتنا الشمسية وحدها، ولا مع مجرة درب التبانة؛ بل مع نظام أشمل وأوسع، وفي سفري لم أحس بذلك الإحساس الذي يمثله مثلث معابد الأقصر على ضفتي النيل (الكرنك والأقصر في الشرق، وحتشبسوت في الغرب) إلا في مدينة الرسول الكريم في المدينة المنورة. فالمدينة هي واحدة من تلك المدن المخططة (من أعلى) في توازن عجيب مع النظام الكوني للأفلاك والأجرام السماوية، فما بين القبة الخضراء وقباء خطوط الرحمة، ونسيج حريري من الطاقة، لا يدرك معانيها إلا من فهم معاني تعامد الشمس على وجه رمسيس، واختلافات ميل الخط السماوي، ليس في جانبها الاحتفالي كما يحدث كل عام في أبو سمبل، ولكن في جانبها الكوني الأبعد؛ حيث تميل الشمس ومعها نجوم أخرى لا يعرفها إلا القلة، عن كهفهم أو عن قدس الأقداس، ولذلك قصة أخرى، ألمحت لها في مقال سابق هنا بعنوان «المشي في المدينة»، («الشرق الأوسط» 9 فبراير 2015) وللحديث صلة.