توقيت القاهرة المحلي 10:01:04 آخر تحديث
  مصر اليوم -

هل يفسر الدين تقدم المجتمعات أو تخلفها؟

  مصر اليوم -

هل يفسر الدين تقدم المجتمعات أو تخلفها

بقلم : مأمون فندي

تفسير الظواهر الاجتماعية من خلال متغير واحد هو ضرب من ضروب الغباء، هكذا تعلمنا في أول دروس علم السياسة. ومن هذه المقولة التي تشبه القانون في العلوم السياسية، أبدأ ملاحظاتي حول أحاديثنا غير المنتهية حول دور الدين في تقدم المجتمعات أو تخلفها، كل حسب موقعه ورؤيته، دينية كانت أم علمانية أم غير ذلك.
يشغلني كثيراً في حديثنا عن دور الدين في أسئلة التقدم أو التخلف موضوع إساءة القراءة، فمثلاً تشيع لدى كثيرين في عالمنا العربي ممن ليسوا في معسكر الدين أنَّ أساس النهضة الأوروبية هي مسألة فصل الدين عن الدولة، دونما إدراك لعوامل اجتماعية، وتحولات اقتصادية وسياسية وثقافية ومعرفية، مثلت أموراً حاسمة في تفسير أسباب التقدم الغربي عموماً. لن أتوقف كثيراً إلا بإشارة بسيطة إلى أنَّ القطيعة بين الدين والدولة اجتماعياً أمرٌ ذهنيٌّ، وليس حقيقة اجتماعية، فما زال دين رأس الدولة في كثير من الدول الأوروبية أمراً يخلط بين الديني والسياسي، في شخص رأس الدولة على الأقل. كما أنَّ التجربة العلمانية الفرنسية اللائكية هي تجربة لم يحدث فيها طلاقٌ بائنٌ بين ما هو ديني وما هو دنيوي. ومع ذلك، شاعت في عالم الشفاهة عندنا وعالم الإعلام فكرة فصل الدين عن الدولة بصفتها سبباً أساسياً وحيداً لتفسير تقدم الغرب، وظهور أنظمته العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وهذا قول يشبه تلخيص كل ما كتب كارل ماركس مثلاً من كتب ضخمة ذات طروحات جادة، مثل رأس المال، واختزالها في مقولة شائعة، هي: «الدين أفيون الشعوب». هذا النوع من الاختزال المخل للتجارب والمعارف الغربية هو الذي وضعنا في الحالة التي نحن فيها من إساءة قراءة تجارب الآخرين، مما لا يثري تجاربنا أو يضع أمامها نموذجاً مغايراً يجبرنا على التأمل والتفكير.
وسأؤجل الحديث عن أنَّ بالغرب علمانيات، لا علمانية واحدة؛ أي أنَّ العلمانية الألمانية غير الفرنسية، وكلتاهما مختلفتان عن العلمانية الأميركية. ولن أتطرق إلى أنَّ الحداثة درجات مختلفة، لا حداثة واحدة، أو حتى ما بعد حداثة واحدة. فلهذا حديث يطول شرحه. إساءه قراءتنا للتجربة الأوروبية ودور الدين هو بداية مأساتنا في إساءة قراءة مجتمعاتنا، إذ يلبس بعضهم العدسات المشوهة ذاتها على عينيه، وينظر إلى مجتمعاتنا من المنظور ذاته، على الرغم من الاختلافات بين تجربة بناء الدولة في المغرب عنها في المشرق، وتنوع التجارب داخل المشرق والمغرب، فلا تجربة علاقة الدين بالمجتمع في ليبيا مثلاً تشبه تجربة المغرب، ولا تجربة اليمن تشبه السعودية أو عمان، ومصر حالة خاصة مختلفة أيضاً.
شيوع الفهم للعلمانية بين من يصدرون أنفسهم للحديث عن قضايا الدين والدولة في الإعلام دونما فهم لتعدد العلمانية من ناحية، وعدم إدراك الفارق بين العلمانية ودولة القانون، بصفتها سياقاً حاكماً، هو الذي أدخلنا في هذه التوجهات.
كتاب المشرق العربي، باستثناء حالة عزيز العظمة وأمين معلوف، تشكل فهمهم للعلمانية من خلال التجربة التركية، المتمثلة في كمال أتاتورك، التي تلوثت فيها السلطوية بالعلمانية، ونتج عنها سيئ القول الذي نراه يدور في الفضاء الثقافي المشرقي. أما الإخوة المغاربة، فسيطر عليهم النموذج الفرنسي للعلمانية والحداثة، وكانوا أكثر انفتاحاً وقدرة على الفهم في حالات كتابات عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وأركون الذين استوعبوا التجربة الفرنسية وأدواتها التحليلية في قراءة تاريخ مجتمعاتنا من منظور أكثر صفاء، يركز أكثر على دولة القانون والعلمانية، بصفتها سياقاً أوسع.
هذا على مستوى المشارب التي نستطيع منها تنقية المفاهيم وتحريرها حتى نبدأ بداية معقولة للحديث عن الدين والمجتمع، وأسئلة التقدم أو التخلف.
الغرق الذي نحن فيه من شيوع مصطلحات بعينها، مثل تجديد الخطاب الديني أو غيره، فيه تركيز شديد على أنَّ الدين وحده هو سبب تخلفنا، أو أنَّ تفسيرنا السيئ للدين هو سبب هذا التخلف، أو أنَّ فهمنا الصحيح للدين سيأخذنا إلى التقدم؛ كل هذا يقع داخل إطار الجملة الافتتاحية لهذا المقال؛ إنَّ التركيز على سبب واحد أو عامل واحد أو متغير واحد هو ضرب من ضروب الخطل في التحليل، لو طبق في العلوم الطبيعية لكانت نتائجه كارثية.
إساءة القراءة هي ما خصص له الكاتب الإيطالي إيتالوا كالفينو (italo calvino) كتاباً كاملاً سماه (misreading)، أو إساءة القراءة وإساءة التحليل. نحن ضحية هذا الشيوع وهذه الغوغائية في القراءة والكتابة والتحليل.
فرضت علينا أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، أن نرى مجتمعاتنا من منظور ديني، وأن من قاموا بفعلتهم الشنيعة هم نتاج الثقافة الإسلامية، وهذا ما أشارت إليه أصابع بيرنارد لويس، والمحافظين الجدد، فبدأنا نفتش في نظامنا التعليمي، كأن الدين وحده هو الذي يحرك سلوك البشر، وفي هذا اختزال شديد لتفسير ظهور السلوك العنيف عند الأفراد، وكذلك تفسير التطرف. الشيء نفسه أصبح رائجاً في منطقتنا عندما قلنا إن سبب كل مشكلات النظام السياسي هو الإسلام السياسي مثلاً.
الرواج السياسي لهذه المقولات غير العلمية هو الذي يجعلنا نتغاضى عن بقية العوامل المؤثرة في التغير الاجتماعي، سواء أكان هذا التغير إيجابياً أم سلبياً. لن أتحدث هنا عن اتجاه التغيير أو طبيعته أو مساحته. المشكلة لدينا هي إغفال عوامل أخرى، مثل طبيعة النظام السياسي مثلاً، مضافاً إليه نوعية الاقتصاد السائد، ومن يقع داخله أو خارجه، والثقافة السياسية للمجتمع (الدين هو مكون من مكونات الثقافة السياسية)، وكذلك بنية المجتمع ذاته؛ كلها عوامل تحدد تفسير التقدم والتخلف في المجتمعات.
لماذا نحن سجناء التفسير الأحادي واختزال الظواهر الاجتماعية في التفسير الديني؟ السبب الأول هو أن جميعنا يدعي معرفة الدين، وبعضهم يتصدر أو يدعي معرفة أكبر، لأنَّ لديه تعليماً دينياً أو كان منخرطاً سابقاً في حركة إسلامية، كما أنَّ الحديث عن الدين ليس كالحديث عن الاقتصاد مثلاً. فحديث الاقتصاد يحتاج إلى إلمام بأرقام حقيقية وإحصاء، أما الحديث في الدين فكل يدلي بدلوه، بغض النظر عن المعرفة أو عدمها. حديث الدين أيضاً في المجتمعات المغلقة ساخن عاطفي، يقسم الناس بسهولة إلى معسكرات كلامية، ولا أقول فكرية واضحة، تجعل حالة الحديث عن الدين ممسرحاً؛ أي يشبه الأداء على خشبة المسرح، فيها أدوار بطولة رئيسية وأدوار ثانوية كلها ترضي غرور من ليس له إنجاز، فيرتدي زيه المسرحي، ويتقمص الدور، ويلقي بخطبة عصماء.
إن بداية الحل للخروج بمجتمعاتنا من حالة الظلام إلى النور هي النظر إلى كل المؤثرات التي تنتج التخلف، وليس الغرق في متغير واحد، مثل الدين. التركيز على متغير واحد بصفته مفسراً للظواهر، سواء كان هذا هو الدين أو الاقتصاد أو حتى الحرية، لا يكفي لتفسير التخلف، إذ لا بد أن نقرأ المعادلة كاملة، بكل متغيراتها، والوزن النسبي لكل متغير، وإدراك أن هذا الوزن النسبي يتغير مع الوقت، فقد يزداد أهمية أو يقل. وإن لم نتجنب اختزال تفسير الظواهر السياسية والاجتماعية،
فسندور في متاهة، وأعمالنا تكون قد أُحبطت نتيجة للدوران في المكان ذاته؛ ضجيج ولا مادة تطحن.
في هذه المرحلة التي يراجع فيها الفلاسفة الغربيون تراث العلمانية، وعلاقتها بالتعددية والديمقراطية، واتساع المجال العام عندهم نتيجة لتعقيدات المشهد الاجتماعي فيما بعد الوباء، لا يراجع العرب إشاعاتهم المنقولة بشكل مشوه عن الحداثة والعلمانية الغربية، وعلاقتها بمجتمعاتهم.
إن نصف العلم والاختزال لهو كارثة أوطاننا الأولى، مع بقية كوارثنا الاجتماعية الأخرى. وللدول دور كبير في الترويج لنصف العلم، وكذلك في جعل صدارة المسرح الاجتماعي مساحة يمرح فيها البهلوانات ومحدودو المعرفة أو من يتأبطون معارف زائفة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل يفسر الدين تقدم المجتمعات أو تخلفها هل يفسر الدين تقدم المجتمعات أو تخلفها



GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:14 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

جعجع يُطالب حزب الله إلقاء سلاحه لإنهاء الحرب مع إسرائيل
  مصر اليوم - جعجع يُطالب حزب الله إلقاء سلاحه لإنهاء الحرب مع إسرائيل

GMT 15:26 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو وميسي على قائمة المرشحين لجوائز "غلوب سوكر"
  مصر اليوم - رونالدو وميسي على قائمة المرشحين لجوائز غلوب سوكر

GMT 08:31 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك
  مصر اليوم - الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 00:04 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
  مصر اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 14:07 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

"يوتيوب" يختبر خاصية جديدة تعمل بالذكاء الاصطناعي
  مصر اليوم - يوتيوب يختبر خاصية جديدة تعمل بالذكاء الاصطناعي

GMT 08:11 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

هيفاء وهبي بإطلالات متنوعة ومبدعة تخطف الأنظار

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2018 الإثنين ,16 إبريل / نيسان

المدرب الإسباني أوناي إيمري يغازل بيته القديم

GMT 01:04 2021 السبت ,25 كانون الأول / ديسمبر

جالاتا سراي التركي يفعل عقد مصطفى محمد من الزمالك

GMT 05:34 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

تعرف على السيرة الذاتية للمصرية دينا داش

GMT 20:42 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

طريقة عمل جاتوه خطوة بخطوة

GMT 23:05 2020 الخميس ,24 كانون الأول / ديسمبر

يونيون برلين الألماني يسجل خسائر بأكثر من 10 ملايين يورو

GMT 02:11 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

طبيب روسي يكشف أخطر عواقب الإصابة بكورونا
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon