بقلم - مأمون فندي
كان الخوف الكبير وأحياناً الأمل الأكبر في بداية الحديث عن العولمة، هو أن تسارع الزمن يؤدي إلى انكماش المكان وتقليص المسافات بما يجعل العالم قرية صغيرة تهددها ذات الأخطار، ويمكن أن ينسف الجنس البشري برمته بضربة واحدة ليس من خلال قنبلة نووية، ولكن بهجوم في العالم الافتراضي. ومع ذلك كان هناك الأمل في المستقبل، وكان المستقبل أو التخطيط له في التسعينات من القرن الماضي مع بداية الإنترنت هو الثلاثون سنة المقبلة مثلاً، وكانت الدول ترسم خططها الخمسية أي لكل خمس سنوات، أما اليوم فالمستقبل قريب جداً لا يتخطى الأيام والشهور ولم يعد سؤال الآباء للأبناء ماذا تريد أن تكون عندما تكبر، فأياً كانت الوظيفة التي يتمناها الطفل فربما لن تكون موجودة عندما يكبر أو أن الذكاء الصناعي سيقوم بها بكفاءة أكبر من الإنسان. أصبح المستقبل تحت أقدامنا أو نكاد لا نراه ولذلك دخلنا في دورة معادة (loop).
في السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات عندما كان المستقبل ثلاثين عاماً إلى الأمام، كان الماضي أيضاً بعيداً فكانت مجتمعاتنا في نظرتها المتطرفة تريد العودة إلى القرن السابع الميلادي مع بداية الخلافة الراشدة، وكان الشق الليبرالي من مجتمعاتنا يريد العودة إلى بدايات القرن العشرين، على الأقل مسافة خمسين عاماً إلى الوراء. أما اليوم ومع تقلص المستقبل تقلص الماضي أيضاً، فبعض الليبيين يريدون العودة إلى نظام القذافي ليختاروا سيف الإسلام رئيساً، وما كانوا يعرفون بالصحوات لا يريدون العودة إلى الخلافة، بل إلى أبو مصعب الزرقاوي وأسامة بن لادن، ومن هنا يكون حديث عودة الصحوة لا الخلافة الراشدة كمرجعية لها، بل الماضي القريب والعنيف، وسأتناول بعض هذه التبعات باختصار في نهاية هذا المقال. النقطة هي أن موت المستقبل لم يغرقنا في الماضي، بل أيضاً جعل اختيارنا للماضي ليس بعيداً، نختار من أقرب ماضٍ رغم ثراء التاريخ بالتجارب.
البحث عن إبرة في كومة قش كان يمثل رمزية المتاهة الكبرى بالنسبة للبشرية، وكان مطلوباً منا الإلمام بكومة القش كلها حتى نجد الإبرة، اليوم وفي عالم المعلومات فإن أردت معلومة من التاريخ، فإن محرك البحث يخرجها لك في لحظة فلم يعد مهماً الإلمام بالتاريخ كله للبحث عن موضوع معين (الإبرة)، مطلوب فقط محرك بحث جيد مثل «غوغل» لكي يمنحك الإبرة فقط. إذن نحن لسنا أمام موت المستقبل فقط، وإنما نحن أمام الموت البطيء للتاريخ وموت السياق الحاكم لهذا التاريخ، لم يعد الإلمام بالتاريخ مهماً فأنت تدعي معرفتك بالتاريخ بقدر ما يمنحه لك محرك البحث لإيجاد الإبرة التي تريدها.
المشكلة في عالمنا العربي أننا نعيش في تلك اللحظة الحرجة لتقاطع التاريخ مع المستقبل وجزء منا في العالم الافتراضي ربما أكثر من نصف وقتنا تقضيه في العالم الافتراضي بأدواته الحديثة، بينما نتعامل مع العالم من حولنا بأدوات قديمة وقديمة جداً، وبهذا يكون جزء آخر منا في القديم وجزء فيما بعد الحديث. نقتبس من ماضٍ لا يناسب ودونما الإلمام لتطبيقه على مستقبل لن يكون معنا في الشهر المقبل، وليس في السنة المقبلة. مستقبل متحرك كجريان الماء فلن تخوض فيه مرتين، لأن الماء يجري والماء الذي تخوض فيه غير الماء الذي بعده بثوانٍ قليلة. فهل هو مستقبل حي ومتحرك، أم كما ذكرت سلفاً هو أن المستقبل قد مات إلى الأبد؟
عندما كتب الباحث الأميركي فرانسيس فوكوياما مقولته عن نهاية التاريخ، كان يراها في انتصار الديمقراطية الليبرالية مقابل بقية الأنظمة، ولكن ما لم يعرفه فوكوياما هو أن التاريخ قد مات أيضاً بفعل محرك البحث، ولم يعد التاريخ هو معرفة تاريخ العصور الوسطى أو التاريخ القديم، التاريخ أصبح خيطاً رفيعاً يشده محرك البحث ليأتي لنا بمعلومة بلا سياق، بلا تاريخ. ومع موت التاريخ يموت المستقبل أيضاً.
ما هي تبعات هذا الطرح الذي يبدو فلسفياً في ظاهره على عالمنا العربي؟
أعتقد أن تحدي العالم العربي اليوم هو إعادة بناء منظومة القيم بشكل جديد لا بالأدوات القديمة، فالمفاهيم القديمة للقيم والتفوق الأخلاقي لا تصمد كثيراً أمام لحظة من التفكير. فلنأخذ مثالاً لفكرتنا عن حرمة الأذى، أي أن إيذاء الإنسان والحيوان والبيئة هو أمر محرم ومجرم، ويجب ألا ننخرط فيه من قريب أو بعيد، ولكن يبقى هذا صحيحاً عندما يكون فعل الأذى أمراً مباشراً وقريباً نراه. ولكن العربي اليوم لديه بورصات تقريباً في كل الدول، والبعض منا يستثمر في البورصات العالمية. فهل تعلم ماذا تفعل الشركات التي تستثمر فيها بأموالك؟ ماذا لو كانت شركات منتجة للتلوث البيئي وماذا لو كانت شركات لصناعة أدوات القتل، وماذا لو كانت شركات إنتاج الغازات السامة والمواد الكيميائية، التي تصنع منها أسلحة الدمار الشامل. أموالك تمنحك ربحاً هائلاً، ولكن ماذا لو كنت تتربح من القتل؟ ماذا لو تتبعت أموالك واكتشفت أنها تستخدم في كل ما تعتقد أنه حرام، فما معنى الأخلاق وكيف نعرفها في هذا السياق، وأموالك تفعل عكس ذلك وربما دونما دراية أو علم منك؟
هذا مثل قد يكون بعيداً، ولكن الفكرة هي أن الأخلاق بالمعنى التقليدي لا تكفي، بل يحب إعادة النظر فيها وإعادة تركيبها وبنائها من جديد في عالم يحتضر فيه التاريخ ببطء، ويموت فيه المستقبل كل يوم.
في عالم يموت فيه المستقبل أو يختفي لا يبقى أمامنا سوى الماضي لنصبح جميعاً سلفيين بدرجات مختلفة، حتى لو كان الماضي الذي ننتسب إلى مجرد لحظات منه فقط. لم يعد النظر إلى الأمام ممكناً، وهذا أشبه بالنظر إلى المرآة العاكسة للسيارة نرى ما وراءنا ويمكن أن نرتطم بأقرب جدار، أو كما يقول المصريون «نلبس في الحيط».
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية