توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حتى لا يصيبنا العطن

  مصر اليوم -

حتى لا يصيبنا العطن

بقلم: مأمون فندي

لطالما تأمَّلت زيادة الناس في المساجد لدرجة يسحُّ فيها الجامع في الشارع في صلاة الجمعة. والمفارقة أنَّ هذا التزايد في إقامة الشعائر التي تخص الفرد يرافقه تناقص في القيم الحاكمة للسلوك العام في المجتمع، من فساد ورشوة وامتلاء الشارع العام بالنفايات (الفعلية والفكرية معاً)، فكيف يزدان المظهر ويضمحل الجوهر؟ أو كيف تملأ الطقوس والشعائر دنيانا بينما تتقلَّص مساحات الحلال والحرام؛ أي تنهار منظومة القيم الحاكمة لسلوك الناس؟
الأنظمة في العالم العربي تتصرف مثلاً في قضية حرية الرأي، ولا تعاقب بشكل جدي على إلقاء القمامة في الشارع.. تعاقب على ما تظنه أذى ينتجه العقل، ولا تعاقب على أذى الطريق والطريقة. ظني أن هذا التناقض يحتاج إلى تفسير، ليس تفسيراً دينياً، وإنما تفسير اجتماعي سياسي ثقافي.
ذات مرة، زرت مذيعاً تلفزيونياً لامعاً في بيته، وفي الطريق إلى ذلك البيت لم أسلم من قذى يؤذي العين، وأنا أنظر إلى الزبالة المرمية المتناثرة في الشارع، فسألته لماذا لا تخصص حلقة من برنامجك للقبح الذي يملأ الطريق إلى بيتك، بدلاً من انشغالك بقضايا كبرى مجردة لا تمس من هم حولك مباشرة. وكانت إجابته تجريدية تلهث في اتجاه مخرج من نفق النفاق الذي يعيشه ونحياه معه جميعاً.
كان يلبس جلبابه الأبيض في طريقه إلى الصلاة، وبيته نظيف مرتب (الخاص)، وما حوله مساحات من عطن وفساد تشتم رائحتها من بعيد (المجال العام). فقلت له إنَّ في أحواله وبيته لرمزية كبرى لحياتنا... نظافة في الخاص واتساخ في العام، وإذا كانت السياسة والاجتماع هما المجال العام، وأولى علاماته القمامة، فلا أظن أنَّ بلداً كهذا له مستقبل أو بوابة مفتوحة تأخذه إلى عالم التحضر، فقط نحيا في جحور نظيفة كجحور النمل، وخارجها أكوام مما لا نطيق، فلماذا نسكت عن هذا وهو من صنع أيدينا؟ وما علاقة ديننا وقيمنا باتساخ العام ونظافة الخاص؟

 

ركَّز المسلمون على مظاهر الدين على مستوى الفرد، وفشلوا في تبني جوهر الدين وقيمه التي تنظم المجال العام. إذا كان الدين تهذيباً للنفوس، فلماذا سيكون تهذيباً داخل البيت، وفساداً وإهمالاً في المجال العام؟ وإذا كان الدين للناس كافة (العام)، فلماذا نحصره في مظاهر الخاص؟ وإذا ذهبنا إلى مفهوم الطهارة، فلماذا أيضاً طهارة الخاص ونجاسة العام؟ لماذا نغتسل في بيوتنا بينما نعرف أن مجرد خروجنا إلى شوارعنا يناقض ما فعلناه في الداخل؟ إن بداية الطهارة تكون في محيطنا الخارجي للحفاظ على طهارة المجموع لا طهارة الفرد.
طهارة المجموع أصبحت أمراً ملحاً في عصر الوباء، إذ أصبحت نظافة الخارج بالأهمية ذاتها لنظافة الداخل منعاً للعدوى. ومع ذلك، تبقى شوارعنا متسخة.
وأنا أمشي في أحد شوارع لندن، شاهدت رجلاً يلقى بعلبة سجائر فارغة في الشارع، فالتقطها رجل إنجليزي وجرى خلفه صائحاً: «لو سمحت، لقد سقطت منك هذه العلبة»، وأعطاها له في يده. ويبدو أن الرجل قد خجل، إذ احتفظ بها لنفسه حتى وصل إلى أقرب حاوية قمامة وألقاها فيها. لم يعلمه الإنجليزي درساً بخطبة عصماء، أو نهره لسلوكه، بل علَّمه الدرس بأدب.
هنا، المجال العام نظيف لأن الجميع شركاء فيه، ولا يخص نخبة دون غيرها، فالوطن للجميع لا لمجموعة بعينها، والجميع يحافظ على طهارته ونظافته قدر الإمكان، وكذلك تكون السياسة التي هي انعكاس لسلوك الأفراد في المجال العام. وظني أن هذا صحيح الإسلام، أما الشعائر والطقوس التي يتباهى بها بعضنا فهي أمر شخصي لا علاقة له بعلم الاجتماع البشري، ولا بحسن الجوار ومشاركة الآخرين في أرض أراد الله لنا أن نعمرها، لا أن نجعلها مقلباً للنفايات الفكرية واللفظية والفيزيائية.
فكيف ننتقل - نحن المسلمين - في بداية عام جديد من مجال التباهي بالشعائر إلى مجال الالتزام بالقيم والشرع؛ والشرع هنا أوله الالتزام بالقانون الحاكم للمجتمع.
وفي القرآن الكريم سورة كاملة هي سورة «المنافقون»، وظني أن الحق - جل وعلا - يعلم أننا نحتاج إلى سورة واضحة لا لبس فيها تحدد لنا خطورة الفجوة بين الأقوال والأفعال، بين الجوهر والمظهر، وأن غلبة المظهر على الجوهر لهو آفة المجتمعات التي تنخر فيها كما ينخر العطن في التفاحة، فهل لنا من وقفة تجاه حالة العطن الضارب فينا الذي لا تغطيه المظاهر أياً كان بريق الطلاء، وأياً كانت حيل التخفي؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حتى لا يصيبنا العطن حتى لا يصيبنا العطن



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon