بقلم:مأمون فندي
هناك أحداث تمثل إما نهاية إمبراطوريات أو بزوغ أخرى. وهنا أدعي أن الاتفاق السعودي - الإيراني إذا ما وصل إلى نهايته المنطقية، وهي ترتيب نظام أمن إقليمي جديد، فقد يكون هذا الاتفاق أشبه بحرب السويس عام 1956، التي كانت علامة على نهاية الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، وبزوغ الإمبراطورية الأميركية في الشرق الأوسط؛ ليس نهاية الإمبراطورية البريطانية وحدها، وإنما الفرنسية أيضاً. تبعات حرب السويس أكدت على ظهور قوة جديدة في العالم بشكل لافت، خصوصاً عندما أعلن دوايت أيزنهاور أنه لن يساعد بريطانيا في أزمتها الاقتصادية، إلا عندما تعلن التزام خروج قواتها من منطقة السويس، ورضخ الإنجليز للطلب الأميركي. في حرب السويس أيضاً كان هناك إعلان آخر، وهو ظهور الدور الروسي في المنطقة والمنافسة الروسية الأميركية التي شكلت الحرب الباردة. أما فرنسا التي رأت في القوة الأميركية تهديداً، فقد قررت أن تحتمي بالعمق الأوروبي، وبالتنسيق مع ألمانيا عمل الطرفان معاً كي تظهر «اتفاقية روما» للعلن نواةً لتجمُّع اقتصادي أوروبي، وذلك في 25 مارس (آذار) 1957، كذلك، وفي ظل الهيمنة الأميركية، بدأت فرنسا بالبحث عن استقلالها النووي بعد مجيء ديغول إلى الحكم في الثامن من يناير (كانون الثاني) 1959 (هل كانت هناك مشكلة نووية يومها كما الحال اليوم؟). لم يخطر ربما ببال جمال عبد الناصر في حرب 1956، أنه بتأميم قناة السويس، وبآخر طلقة في بورسعيد، يعلن نهاية الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية معاً، ولكن هكذا جرت الأحداث، وهو ما يُعرف في علم السياسة بالنتائج غير المحسوبة. إذن، هناك أحداث تبدو على السطح حدثاً دبلوماسياً عادياً، ولكنها في النهاية تشكل البيئة السياسية في الإقليم وربما في العالم. ما أقصده هنا أنه من الوارد أن يكون اتفاق السعودية وإيران (وتبعاته) بمثابة إعلان لبزوغ القوة الصينية في الشرق الأوسط على حساب الوجود الأميركي المتراجع في المنطقة، الذي كانت كبرى علاماته الخروج غير المنظَّم من أفغانستان. هذا الاتفاق ليس إعلان نهاية إمبراطورية، بل بزوغ إمبراطورية أخرى على المسرح العالمي. شروق شمس الإمبراطورية الصينية جديد علينا في الشرق الأوسط، ولكنه موجود في مشروعات الصين العملاقة في إندونيسيا وماليزيا، وسيطرتها على الموانئ هناك، كذلك الوجود الصيني الكثيف في أفريقيا، فشركة «سينوك» تعمل في معظم أفريقيا منذ زمن طويل. الصين تتمدد اقتصادياً وسياسياً؛ فهل هذه مقاربة جديرة بالاعتبار أم أنها مبالغة في قراءة حدث قد ينتهي إلى ما انتهي إليه الاتفاق الأمني الذي سبقه بين المملكة وإيران، الذي دشنته زيارة وزير الداخلية السعودي آنذاك الأمير نايف بن عبد العزيز (رحمه الله) إلى إيران عام 2001، ثم انتهى عندما قطعت العلاقات عام 2016؟
أدعي أن الاتفاق مختلف هذه المرة، نتيجة للظرف الإقليمي، وعلاقات الدولة الراعية بالأطراف، وكذلك طموحاتها في ظل استراتيجية بايدن التي تقسم العالم إلى ديمقراطيات وديكتاتوريات، بهدف واحد، وهو حصار تلك القوة الصينية البازغة. هناك فرق أيضاً في طريقة الوصول إلى الاتفاق، وصرامة الإجراءات المصاحبة؛ إذ جاء الاتفاق بعد جهد مضنٍ بين البلدين، ومفاوضات مبدئية مرهقة في كل من العراق وعمان، ثم انتهى في بكين في 10 مارس (آذار) برعاية دولة نووية عظمي وعضو في مجلس الأمن، وهي الصين.
أمر آخر يخص طبيعة الوسيط الصيني؛ فعلى العكس من الوساطة الأميركية في حل النزعات الإقليمية (الصراع العربي - الإسرائيلي مثلاً، حيث كانت أميركا دوماً تميل إلى وجهة النظر الإسرائيلية)، نجد أن الصين بمثابة الوسيط الأمين، لما لها من مصالح مشتركة ومتشابكة مع البلدين، ولا تميل الصين لواحدة على حساب الأخرى؛ فبين الصين والسعودية وإيران اتفاقات تجارية تكفى لاستمرار دور الصين في حل المشكلة؛ فعلى سبيل المثال، وفي زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ الأخيرة للمملكة، وقَّع العاهل السعودي الملك سلمان، والرئيس الصيني، اتفاق شراكة استراتيجية شاملة، منها 34 اتفاقية استثمار في مجالات الطاقة وتكنولوجيا المعلومات والخدمات والنقل والصناعات الطبية والإسكان والبناء. بلغ حجم التبادل التجاري بين السعودية والصين 87.3 مليار دولار في 2021، وبلغت قيمة الصادرات الصينية للسعودية 30.3 مليار دولار، فيما بلغت واردات الصين من المملكة 57 مليار دولار. الشيء نفسه يمكن أن يُقال عن العلاقات الصينية - الإيرانية؛ فهناك اتفاق التعاون الاستراتيجي المشترك بين إيران والصين، حيث تستورد الصين من طهران ما يقرب من 1.2 مليون برميل بترول، كما أن الصين هي التي منحت إيران قبلة الحياة، وهي ترضخ تحت العقوبات الأميركية. النقطة الأساسية هنا أن هناك مصالح كبرى بين كل من الصين والسعودية من ناحية، وإيران والصين، من ناحية أخرى، تجعل الصين تتمسك بعلاقتها مع الطرفين، وتحمي الاتفاق بكل ما تملك، لأنه استراتيجي بالنسبة للصين، قبل أن يكون استراتيجياً للأطراف شرق الأوسطية.
مهم أن نرى السياق الإقليمي الأوسع للاتفاق وأهميته بالنسبة للصين، بدايةً يمكن القول إن انجذاب الصين للشرق الأوسط فيه مكون بنيوي، بمعنى أن الفراغ الذي تركته أميركا في الشرق الأوسط يجذب قوى أخرى لملء هذا الفراغ، بدأ بدخول روسيا إلى سوريا، وبما أن روسيا مشغولة بحربها في أوكرانيا؛ فقد خلا المكان للصين بملء بقية الفراغ الاستراتيجي. هذه النقطة البنيوية التي إن لم تملأها الصين جذبت مكانها قوة أخرى.
كما أن هناك عوامل أخرى تجعل الاتفاق ضرورة استراتيجية بالنسبة للدولتين؛ فمثلا هناك إمكانية صراع بين إيران وإسرائيل، والمملكة لا تريد أن تكون طرفاً في هذا الصراع، وإيران ترى في الاتفاق إغلاق الطريق على عمل عدواني إسرائيلي تجاهها، كما أن توتراً في العلاقات السعودية - الأميركية لا تخطئه العين، والصين تريد أن تستغل هذه الفرصة كموضع قدم في الشرق الأوسط، في ظل التنافس بينها وبين الولايات المتحدة، كما أنه بمثابة إعلان من المملكة عن اغتياظها من السياسات الأميركية بشكل غير مباشر، من خلال التلويح بقدراتها وخياراتها، وإعادة العلاقات مع إيران واحدة منها. طبعاً، من نافلة القول هنا أن ندرك أن السعودية تاريخياً لا تستبدل حليفاً بحليف آخر؛ ففي الوقت الذي التقى فيه الملك عبد العزيز مع الرئيس الأميركي روزفلت العائد من مؤتمر يالطا بعد الحرب (14 فبراير/ شباط 1945) في البحيرات المرّة، لم تنقطع علاقته ببريطانيا، رغم إدراكه أن هذه قوة آفلة، وتلك قوة بازغة. ولا يختلف اليوم عن البارحة؛ فالجنوح السعودي تجاه الصين لا يعني التخلي عن الحليف الأميركي؛ فولي العهد السعودي يلعب بما لديه من أوراق مدركاً لحدود القوة، ومدركاً للثغرات التي تقدمها التناقضات، وفي الوقت ذاته يحافظ على التوازنات، خصوصاً أن هدفه الأول استقرار يساعد في تحقيق رؤيته (2030).
تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بين إيران والمملكة، الموقَّعة في 2001، والاحترام المتبادل، والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، ستكون له تبعات على ما يحدث في اليمن ولبنان، وكذلك العراق وسوريا.
هناك إمكانية أن تكون تبعات الاتفاق السعودي - الإيراني تحت مظلة صينية متعاظمة لا تقل عن تبعات حرب السويس، من حيث تغيير البيئة الاستراتيجية في المنطقة والعالم، ولكن بقدر ما للاتفاق من مؤيدين ومهللين، نظراً لأهميته من الزوايا التي ذكرتها آنفاً، سيكون للاتفاق أعداء، وبحماس أكبر، يريدون خروج هذا القطار عن القضبان. بلا شك هناك لاعبون؛ سواء على مستوى الدول وأجهزتها أو على مستوى الحركات العنيفة التي اقتاتت لسنين طويلة على التناقضات أو الخلافات السعودية - الإيرانية، يزعجها كثيراً هذا الاتفاق، ويضرب مصالحها في مقتل، ولذلك فقد تستميت لإفشال هذا الاتفاق أو تعطيله، وذلك لما له من تبعات إقليمية ودولية كبرى. ومن هنا، تبدو مدة الشهرين لعودة العلاقات بين السعودية وإيران طويلة جداً في هذه الظروف المعقدة.