بقلم - مأمون فندي
دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إلى حوار وطني يجب أن تَحظَى باحترام وجدية تليق بوطن، وتليق بأن الداعي للحوار هو رئيس مصر. ومن هذا المنطلق أقول إنني لست مع الحوار الوطني الشامل، المتمثل في دعوة الأحزاب، أو من ظهروا في التلفزيونات، أو مخرجات مؤتمرات الشباب، للحوار مع الحكومة على غرار حوار الراحل عمر سليمان مع «القوى الوطنية»، ذلك التعبير الذي لا يعني شيئاً سياسياً يمكن فهمه؛ مصطلح من مصطلحات القاهرة المغرمة بالكلام المنمق. خبرنا نتيجة هذه الحوارات من قبل في حوارات «القوى» مع عمر سليمان، وخبرنا أيضاً النتائج التي أفضى إليها ذلك الحوار، فما فائدة أن نجرب الشخوص ذاتهم والموضوعات ذاتها، رغم أنه أفضى إلى كارثة من قبل؟
ومن هنا، وفي هذا المقال سأرسم باختصار ملامح حوار قد يكون أكثر فائدة ونضجاً، من حيث الشكل، وقدرة هذا الشكل على إنتاج محتوى ومضمون مغاير يأخذنا بعيداً عن المستوى المتدني الذي يتسيد مشهد الكلام الآن. فكرتي عن الحوار مبنية على فكرة التدريب على الحوار أولاً، وإنتاج مضمون بديل ثانياً.
ما أعنيه هنا أن يبدأ الحوار الذي هو «أقل من وطني قليلاً» من المحافظات المختلفة، أولاً من شمال مصر إلى جنوبها، أو كما نقول بالعامية بحري وقبلي. بمعنى أن يبدأ حوار «أقل من وطني قليلاً» في محافظتين؛ واحدة جنوبية والأخرى شمالية، فلنأخذ مثلاً محافظة جنوبية مثل أسوان، أو شمالية مثل البحيرة، ويبث تلفزيونياً لنرى أمام أعيننا أجندة الحوار من أسوان، ونوعية الحوار الذي تريده أسوان، وما يشغل أهل أسوان، وحوار البحيرة وما يشغل أهل البحيرة، شريطة ألا يشارك في الحوار أبناء المحافظتين المقيمون في القاهرة أو خارج المحافظتين، ممن أبعدتهم الجغرافيا والمصالح عن هموم أهل المحافظة. نريد أن نسمع حوار أسوان والبحيرة، كما هو وبدون تزويق، ويجب أن يبثه التلفزيون الوطني كاملاً، لنرى عبقرية أسوان والبحيرة، إن كانت هناك عبقرية، أو نرى الخيبة إذا كانت في الأمر خيبة، فلا بد أن نكاشف بعضنا، ونرى مجتمعنا كما هو إن أردنا الإصلاح.
يمثل هذا الحوار ورشة تدريب على بناء أجندة الحوار وطريقة إدارة الحوار، بحيث عندما ينتقل الحوار إلى محافظة قنا جنوباً ومطروح مثلاً شمالاً المجاورة، نكون قد تعلمنا من أخطاء حوار أسوان والبحيرة، لنتلافى عيوبه، أو نرفع من مستوى الحوار، أو نعدل فيه. الفكرة هنا هي فكرة التعلم بالممارسة من خلال حوارات محلية متلفزة وطنياً، لكي يرى المصريون كيف يتحدث إخوانهم وأخواتهم في الأقاليم المختلفة من الوطن.
وقد طرحت من قبل فكرة شبيهة بذلك بعد ثورة يناير (كانون الثاني)، قلت فيها إن الانتخابات يجب أن تبدأ بانتخاب المحافظين أولاً، وتتلفز هذه الانتخابات وطنياً، لنرى جميعاً أخطاءها، وكيفية تلافيها في انتخابات المحافظة التي تليها، أي بعد أن نرى انتخابات أكثر من عشرين محافظاً نكون قد تدربنا قليلاً على نواقص الديمقراطية، وعلى الألاعيب التي تمارس فيها، وعندما نصل إلى انتخابات الرئاسة والبرلمان نكون قد تعلمنا الديمقراطية ممارسة. لم يهتم أحدٌ بهذا الطرح في 2011، ولا أظن أن الطرح الحالي سيحظى باهتمام أيضاً، لأن المجتمع المركزي لا يعترف بأي أفكار تأتي من خارج العاصمة، ولديه قدرة عجيبة على التسفيه منها. لذا فحوارات القاهرة السابقة لا يعول عليها في مدى تطبيق أسس الحوار، فقط محاصصة سياسية رأينا خيباتها ونتائجها في حوار «الأحزاب والقوى الوطنية»، إذا كان لهذه العبارة أي معنى، في ظل أحزاب نعرف أنها واجهات، ولا يرقى أن تكون طرفاً في حوار وطني، فكيف تكون وطنياً وأنت مصنوع من جهات محدد ولاؤك لها.
في التركيز على البعد الجغرافي، الذي قد تمتد فترة الاستماع إليه إلى عام تقريباً فوائد تعليمية، تجعل كلاً منا يتعرف على هموم أبناء سيناء ومطروح وأسوان ومحافظة البحر الأحمر. المصري يعرف الكثير عن محافظته وعن القاهرة، ولكنه جاهل ببقية المحافظات والأقاليم. إذن لنتخذ من الحوار الوطني فرصة لكي يتعرف المصريون على بلدهم وأهلها، حتى لو كانت تجربة التعلم هي الفائدة الوحيدة من الحوار الوطني، فهذا يكفي.
فوق تجربة الاستماع إلى المحافظات، آخرها العاصمة، ومعها محافظة الجيزة، يجب أن تستمع إلى الخبراء من خارج الوطن، ممن تعلموا وتدربوا وعملوا بالخارج، كي نستمع إلى رؤى مقارنة لمجتمعنا، وعلاقته بالمجتمعات الأخرى، وعلاقة تجاربنا بتجارب الأوطان الأخرى. وأتمنى ألا يكون هذا على غرار بعض نواب البرلمان الذين «يدعون أنهم يمثلون الخارج، رغم أنهم مختارون من أجهزة الداخل».
فكرة الحوار فرصة وطنية مهمة، حتى لو كانت فائدتها الوحيدة أننا تعلمنا الحوار وتعرفنا على أصوات جديدة وأصيلة، تزاحم ولو قليلاً أنصاف المتعلمين ممن يملأون الفضاءات ضجيجاً.
هناك أفكار كثيرة وبديلة للوصول إلى أجندة حوار على مستوى المحافظة والوطن، منها المسح الشامل للتجمعات البشرية وأولوياتهم، وكيف يتم تجميع هذه المادة من خلال أساتذة السياسة والاجتماع لرسم ملامح أجندة الحوار الوطني.
وهذه الطريقة موجودة في كل المجتمعات الغربية. المهم في كل هذا، هو أن تكون النية خالصة من أجل حوار وطني جاد، يأخذ مصر ولو خطوة واحدة إلى الأمام.