بقلم: مأمون فندي
مساء الإعلان عن موتِ أنور السادات.. نعم السادات وليس مبارك، أذكر أنَّني كنت ممسكاً بحديدة في قطار مهلهل عائداً من القاهرة إلى الصعيد، وكان لديَّ راديو ترانزستور صغير بحجم الآيفون أستمع إليه للتسلية في رحلة مدتها إحدى عشرة ساعة واقفاً في قطار قديم، كان الجلوس في مقاعده الخشبية ليس أفضلَ كثيراً من الوقوف. أذاع الراديو خبر الوفاة، وانتابتني مشاعر مختلطة بين حزن وخوف وقليل من الارتياح. حزن لوفاة رئيس بهذه الطريقة البشعة، وارتياح لنهاية حقبة ظلم اجتماعي وتكميم للأفواه، وخوف مما هو آتٍ، حيث إنَّني لم أكن أقبل الجماعات الإسلامية بديلاً للسادات إذ سيكون القهر مضاعفاً. كنت في السنة النهائية في الجامعة، وكانت الجماعات الإسلامية تمارس قهراً وعنفاً في الجامعات ضد المخالفين لهم في الرأي وفي المظهر، وكان البوليس السياسي أو أمن الدولة يمارس قهر الطلاب من الناحية الأخرى. كنَّا نحيا بين مطرقة دين الجماعات المتطرفة وسندان الدولة التسلطية. كانت حياة شديدة القبح، على الأقل من منظوري الشخصي أيامها، وكنت أفكر في الخروج من مصر بأي ثمن حتى قبل نهاية الدراسة، كان إحساساً خانقاً أن تكون في ريعان الشباب بكل ما في ذلك من طاقة وتعيش في الوقت ذاته سجناً كبيراً اسمه الوطن. كانت هناك ميزة لأن تعيش في الصعيد في حياة أقرب إلى البداوة، تكون الحرية فيها أمراً لا يمكن المساومة عليه، عكس حياة المدن التي يكون التفاوض اليومي على كل شيء أساساً للحياة فيها. إضافة إلى جو القهر، كانت مصر أقرب إلى نظام الكاست (cast system) في المجتمع الهندي؛ طبقة منفتحة غنية وطبقة ملوثة عريضة يجب ألا يشملها الحكم في أي شيء، على الأقل من منظور من يحكمون.
وجاء مبارك على حكم مصر بعد السادات، وخفت وطأة الأمن قليلاً، وكذلك وطأة الجماعات المتطرفة، ولكن ماذا كان لرئيس جديد أن يفعل لتطهير بركة آسنه من الناحيتين: الدولة والمجتمع. كانت مرحلة الأفكار السيئة بامتياز، هشاشه في التفكير وصلابة في قبضة القمع من تيار التطرف والدولة معاً، كان شيئاً أقرب إلى حكم العصابات أو فتوات حارة نجيب محفوظ. هذا ما بقي في رأسي من ذكرياتي الشخصية عن تلك الفترة، ولا أنكر عليك ذكرياتك إن كانت غير ذلك، فالحقيقة شخصية في المقام الأول لا يدركها إلا أصحابها.
لا أعرف عن حقبة مبارك بشكل مباشر إلا أربع سنوات في بداياتها، وبعدها سافرت إلى أميركا للدراسة، وعملت في جامعاتها حتى عام 2006، ثم بعدها إلى لندن حتى اليوم، وكانت معرفتي بمصر في إطار مجتمعات أدرسها وبلد لي أهل فيها، أزورها كلما اقتضت الحاجة.
ومن هنا، أقول إن السنوات العشر الأولى من حكم مبارك شهدت نهضة في البنية التحتية للمجتمع، وأعتقد أنه كان من الأفضل له أن يرضى بفترتين رئاسيتين، ولكن هذا لا يكفي في مصر. فمصر رغم الثورة على الملكية عام 1952، فشلت في التحول إلى جمهورية، وبقيت منزلة بين المنزلتين: لا جمهورية ولا ملكية، لا ديكتاتورية مطلقة ولا ديمقراطية، كانت مجتمعاً يتحرك بدينامياته الخاصة، مجتمعاً ركبت عليه دولة، كما الصاج الذي يغطي موتور السيارة؛ الدولة صاجه لا أكثر يتغطى بها من غلب.
في 25 يناير (كانون الثاني)، طارت الصاجة لأنها أصبحت متهالكة بحكم الزمن لا بقوة الثوار. شيء أقرب إلى البدانة والجلباب الضيق؛ تمزق الجلباب لأن وزن المجتمع قد زاد، ليس إلا.
لم يكن مستغرباً أن مبارك كان حاكماً مطلقاً، فقد كان يحكم مجتمعاً لا يؤمن بالحرية كقيمة، لا في البيت ولا في العمل. كان مبارك نبتاً طبيعياً لمجتمع تسلطي.
وفي العشرين سنة التالية، ترعرعت في عهده فئات لا تعرف إلا البلطجة والفهلوة أسلوباً للحياة، وهو مسؤول عن رعاية تلك البيئة الفاسدة؛ ليس لديَّ معركة كمن يرون أنه لم يفعل ذلك عن قصد.
مصر في عهده غدت سيارة معطلة في وسط الطريق. عطلت نفسها، وعطلت غيرها، لذا جاءت يناير لتزيل تلك السيارة من عرض الطريق، ولم يحسب من أخلوها أن الطريق ستحتله «التكاتك» (جمع توكتوك) التي تمثلت في عشوائيات الإخوان وما تبعها.
خارجياً، حافظ مبارك على دور مصر إقليمياً في حدوده الدنيا. فكان لمصر، لا لمبارك وحده، دور في الحفاظ على السلام، وتحرير الكويت، لذلك أيضاً لا أنكر على من يبجلون مبارك في الخارج رؤيتهم، ولكن مأخذي عليهم هو أنهم نسبوا دور مصر إلى دور مبارك وحده، وفي هذا اختزال لا مبرر له سوى محدودية المعرفة.
ذات مرة، كتبت مقالاً في صحيفة «نيويورك تايمز»، منتقداً فيه استشراء الفساد، وتبعاته على الشرعية وعلى استقرار نظام الحكم. وكان مقالاً مخففاً للغاية، ومع ذلك جاءني الدكتور أسامة الباز (رحمه الله) برسالة صارمة، مفادها أن الدولة لا تتسامح مع هذا النقد في صحف الخارج. سمعت الكلام لأنه قبل قدوم الدكتور الباز، كان نصف أهلي قد «جرجرهم» جهاز أمن الدولة للتحقيق، وقالوا يومها إنهم ليسوا على صلة بي؛ كان مجرد النقد كتابة له ثمن.
بعدها، تعرفت على النظام عن قرب في حوارات مباشرة، كنوع من المصالحة، ومع ذلك كان في كل الحوارات عبارات ضمنية تقول إن ثمن أي نقد في الخارج سيكون غالياً. كان من يهدد بهذا الكلام المبطن يلبس بدلة محترمة، وكان داخل البدلة بلطجي محتمل يمكن أن يخرج في أي لحظة.
التقيت الرئيس مبارك في إحدى زياراته إلى واشنطن، وكان انطباعي عنه أنه رجل عادي يتكلم كثيراً. كنت في تلك الفترة قد عشت في أميركا لمدة عشرين عاماً، وصرت أستاذاً في جامعة جورجتاون، وقد تشبعت من فكرة الحرية، حيث كنت أرى في واشنطن عشرات السفراء والوزراء وبعض الحكام، وكانوا من منظور من يقيم في واشنطن أناساً عاديين، لذا لم تكن لمبارك الهيبة التي كانت ستكون لو قابلته في مصر.
تصوري أن مبارك كان يمكن أن يكون رئيساً أفضل ممن سبقه لو التزم بوعده في بداية عهده، بأن الكفن بلا جيوب، وأنه ليس راغباً في السلطة، وأنه سيكتفي بالمدة الدستورية للرئيس، ولكن للسلطة إغراءاتها.
كان يمكن أن يكون رئيساً جيداً لو استمع، خلال سنواته العشر الأخيرة على الأقل، لأصوات المجتمع التي تقول كفى، ولكنه كان محدود القدرة على السمع.
في سنواته الأخيرة، أنتج ثقافتين: واحدة عليا تنظر إلى الشعب بتعالٍ، وأخرى إعلامية وثقافية لا تعرف إلا التبرير كثقافة. ومع ذلك، لا عزل مبارك ولا موته قد يغير شيئاً من ثقافة غير قادرة على تغيير ذاتها.
إن الصخب الذي صاحب مشكلة الترحم على مبارك من عدمه في مصر هو آخر حدود ما يمكن أن ينتجه العقل المصري المعاصر، ولم أكن أتوقع غير ذلك. فقط يتقدم المجتمع المصري عندما تتفتح العقول، كما الزهور، في جو من الحرية، يكون فيها نقد الدولة والمجتمع والثقافة من الأمور البديهية. وغير ذلك، سيستمر الأمر على ما هو عليه. رحم الله حسني مبارك، وألهم ذويه الصبر.