توقيت القاهرة المحلي 07:14:07 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مجتمع «فرشة العتبة»

  مصر اليوم -

مجتمع «فرشة العتبة»

مأمون فندي

لماذا في منطقتنا تجد ما يزين العربي به نفسه وبيته من البراندز (الماركات العالمية)، أما أفكاره فهي من فرشة في العتبة؟ منطقة العتبة لغير المصريين هي منطقة يفترشها باعة الفالصو أو المنتجات الصينية الرديئة (ومع ذلك فهي منتجات عليها زخارف وأضواء مبهرة للعين غير المتدربة)، منتجات تناسب ليس فقط ذوق العامة وإنما أيضاً حدود ما في جيوبهم. يحيط بهذه البضاعة غالباً مشهد عشوائي من الزحام العبثي وتتخاطف الأيدي كل ما هو رخيص لا لشيء إنما لإبهار من لا يعرفون البراندز أو يتذوقونها.
ليس هناك مشكلة في أن يكون هناك سوق للعوام (سوق لها بريقها) أو كما يصفها أحد الأصدقاء بأنها «كهارب وترتر»، أي أضواء وبريق خاطف، ولكنها سوقية في ذوقها ورخيصة أيضاً، وهنا أستخدم كلمة رخيص بمعناها الواسع. المشكلة الحقيقية هي عندما تنجذب النخب المثقفة أو الأثرياء وحتى بعض النخب الحاكمة إلى عالم «الكهارب والترتر». بالطبع، هناك النخب القادرة على التمييز بين الفالصو والأصلي، ولكنها في هذه اللحظة التاريخية غير قادرة على رسم الخط الفاصل بينها وبين أهل الدرجة الثالثة.
ذات مرة دخلت بيتاً وكان مرصعاً ليس بالفاصو فقط، بل بما يمكن تسميته بأسوأ الجيد «worst of»، وهي عبارة إنجليزية تحدد الفرق بين من يقتني الفن لأن عينه عليمة وآخر يقتنيه، على رأي الرئيس الراحل حسني مبارك، من أجل «الفشخرة». أي حتى عندما يقتني بعض العرب ممن يبحثون عن التشبه السطحي بالأرستقراطية الغربية بعض اللوحات للفنانين العالميين فهم يقتنون أسوأ إنتاجهم، فهناك أسوأ ما رسمه مونيه أو حتى أسوأ ما رسمه فانديك أو فان غوخ، إلخ، وهذا يكشف عن عين سوقية في الاقتناء الفني، وهذا ما أعنيه أيضاً عند الحديث عن فرشة العتبة. فرشة العتبة في انحطاط الذوق هي ذاتها فرشة العتبة في وحشي الأفكار التي تحمله لنا غيوم السوشيال ميديا الداكنة، والتي ينفق على ترويجها علية القوم.
لا أكون مبالغاً في القول عندما أدعي أن معظم الأفكار التي تملأ الفضاء العربي في هذه الأيام هي أفكار مأخوذة مباشرة من فرشة العتبة، أو في أحسن الأحوال هي أسوأ المستورد. ومع ذلك، وفي غياب العين الناقدة يبدو الأسوأ المستورد أو الفالصو المحلي وكأنه الأصل أو أفضل ما يمكن الوصول إليه.
وساعد في تسويق فرشة العتبة هذه الأيام على أنها براندز أو من الصنف الراقي هي حالة الإلحاح المستمر من السوشيال ميديا وتلك الأدوات التي يحتفل بها الناس بجهلهم في العلن، كما يحتفلون فيها بانحطاط أذواقهم أيضاً. ومع هذا التكرار المستمر والإلحاح يظن المشاهد أن هذا هو الطبيعي وأن كل الناس يستهلكون الفالصو ذاته. إنها حالة التلوث البصري. وفي عالم الأفكار هو تلوث سمعي وتلوث الكتابة والصورة معا.
كل هذا رغم فداحته لا يخيفني كثيراً فيما يخص مستقبل منطقتنا، ولكن الخطير في الأمر هو ما يمكن تسميته بالاقتصاد السياسي للجهل والتخلف وتدني الذوق العام.
الجهل والتخلف في بلداننا صناعة تنفق عليها أموال أكثر مما ينفق على التعليم، جهل «متعوب عليه» وتصرف النخب كثيراً من أموالها على نشر التخلف واستمراره من خلال أقنية مختلفة تلفزيونية وإعلام رقمي وغيرهما. إن البحث في اقتصاديات الجهل والتجهيل في منطقتنا هي بداية الطريق للخروج من ذهنية «الكهارب والترتر» وجماعة من يظنون أنهم يحسنون صنعاً وهم يساهمون في أن تبقى «فرشة العتبة» الثقافية والفكرية دوماً على السطح ومتصدرة للشاشات الزرقاء.
كما دخلت بيوتاً من جماعة « »the worst of أو جماعة اقتناء الأسوأ، دخلت أيضاً بيوت من يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وكل صنيعهم يتلخص في استهلاك الجهل وترويجه فترى مجالسهم لا تختلف كثيراً عن «فرشة العتبة». المحزن في بعض الحالات من يعرفون أنهم يتعاطون الجهل من باب الترويح عن النفس، ولكن ما لا يدركونه أن العادة واستمرارية تشجيع الجهل واستهلاكه تحولهم مع الوقت إلى مدمنين لهذه الصنوف من الحديث.
لا أرى حلاً ماثلاً أمامي في الأفق لتفادي أزمة فرشة العتبة إلا إذا بدأنا بدراسة المستهلك والممول لهذه الفرشة، كما أنه لن ينصلح الحال إلا يوم تقرر النخب أن تفرز نفسها لترسم خطاً واضحاً بين نخبة زواج الجهل مع المال، ونخبة تزاوج الثقافة مع المال، وحتى هذه اللحظة لا أرى الخط الفاصل واضحاً. وبينما تحاصر الدولة مجتمع «فرشة العتبة» الأرضي، فإن الفرشة تترعرع في العالم الفضائي والافتراضي. الفرشة انحسرت كثيراً ولم تعد مكسبة على الأرض، خصوصاً في عالم الوباء، إلا أن الفرشة الإلكترونية أصبحت وباءً أشد خطورة وأكثر فتكاً.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مجتمع «فرشة العتبة» مجتمع «فرشة العتبة»



GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:14 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

جعجع يُطالب حزب الله إلقاء سلاحه لإنهاء الحرب مع إسرائيل
  مصر اليوم - جعجع يُطالب حزب الله إلقاء سلاحه لإنهاء الحرب مع إسرائيل

GMT 00:04 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
  مصر اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 08:11 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

هيفاء وهبي بإطلالات متنوعة ومبدعة تخطف الأنظار

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2018 الإثنين ,16 إبريل / نيسان

المدرب الإسباني أوناي إيمري يغازل بيته القديم

GMT 01:04 2021 السبت ,25 كانون الأول / ديسمبر

جالاتا سراي التركي يفعل عقد مصطفى محمد من الزمالك

GMT 05:34 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

تعرف على السيرة الذاتية للمصرية دينا داش

GMT 20:42 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

طريقة عمل جاتوه خطوة بخطوة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon