بقلم: مأمون فندي
الدول مثل الأشخاص قد تمرض بالبدانة المفرطة. وكما في حالة الأشخاص الذين تؤدي بدانتهم المفرطة إلى الوفاة، عندما تزيد نسبة الدهون الثلاثية التي تعيق مجرى الدم من وإلى القلب، كذلك تكون الحال بالنسبة للدول التي تترهل فيها المؤسسات. الدول أيضاً مثل الأشخاص تمرض وتموت. ولدينا في الإقليم دول ليست بالعدد القليل نراها بأم أعيننا، وهي تنازع على فراش الموت، وليبيا مثال صارخ على ذلك، رغم أن البدانة المفرطة لم تكن هي المرض الوحيد الذي عانت منه هذه الدول.
ولكن ما هو مفهوم الدولة البدينة، الذي أصكه هنا، كي تتضح الصورة، ولماذا يكون مرض البدانة مقدمة لموت الدول وأنظمتها السياسية؟ الدولة البدينة لا تعني أن البشر الذين يقيمون داخل حدودها يعانون من السمنة. إذا تبنيت هذه الرؤية فقد ضللت الطريق إلى ما أقصده بمفهوم الدولة البدينة. الدولة البدينة، كما أنظر لها هنا، هي تلك الدولة التي تعاني من ترهل في مؤسساتها، وعدم قدرة هذه المؤسسات على التنسيق فيما بينها، لتعمل كتروس في ماكينة واحدة. وربما تكون صورة الدول البدينة قد ظهرت بصورة جلية خلال فترة وباء «كورونا»، الذي اكتشفت فيه دول كثيرة أن مؤسساتها لا تعمل لما أنشئت من أجله، أو أنها مؤسسات كثيرة بلا وظائف تذكر، أو أن الزمن تجاوزها، وتحتفظ بها الدول بحكم العادة، لا بحكم أهميتها الوظيفية.
فمثلاً كانت هناك وزارة صحة في بريطانيا، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية اكتشف البريطانيون أنهم بحاجة لإعادة هيكلة لنظامهم الصحي، فأنشئت مؤسسة خدمة الصحة الوطنية (NHS) عام 1948. ومن هنا يتضح أن الأمم تعيد النظر في مؤسساتها بعد الأحداث الكبرى، كما كانت الحال بعد الحرب العالمية الثانية، التي ماتت بعدها مؤسسات، وولدت بعدها مؤسسات محلية ودولية. والآن بعد «كورونا»، ربما يعاد النظر أيضاً في مؤسسة الصحة الوطنية في بريطانيا، بعد دراسة ما نجح وما فشل منها. وتحت عنوان الأزمات وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، إذا ما بحثت ستجد عشرات الدراسات الأكاديمية، التي تتحدث عن إعادة الترتيب، ولكن لم يتطرق أي منها لمفهوم الدولة البدينة.
أزمة جائحة «كورونا» كشفت الكثير من عناصر السمنة والتخمة في كثير من الدول، خصوصاً النامية منها. وأول ما سيعاد ترتيبه، وإعادة هيكلته، هو النظام الصحي في كثير من الدول. بعد إعادة هيكلة وزارة الصحة «التخينة»، وتوزيع مهامها على هيئات على غرار مؤسسة خدمة الصحة الوطنية، ستعيد كثير من الدول النظر في عمل بعض الوزارات لديها، كما هي الحال في بلداننا، قد تكتشف أن هذه الوزارات في بلدان كثيرة فشلت في تثقيف الناس، أو إعلامهم، حول الوباء، وأن كل ما تحتاجه الدولة هو متحدث رسمي أو المسؤول نفسه يقوم بالمهمة ذاتها، ليتحدث للصحافة.
هذه الوزارات، رغم أنها مجرد دهون زائدة أو فائض دهون، تعطل عمل الدولة.
سأضرب مثالاً: فقد كان وزير الإعلام صفوت الشريف، أيام مبارك، مجرد رئيس لجهاز الإذاعة والتلفزيون، ثم جاءت ثورة يناير (كانون الثاني) وقررت الدولة إلغاء وزارة الإعلام، الذي أصبح يعني فقط إلغاء منصب الوزير، لكن بقيت العمالة ذاتها بالسمنة ذاتها والترهل. بل بعد إلغاء الوزارة، أنشأت الدولة هيئة جديدة للإعلام ضمت عاملين جدداً، وموظفين جدداً، ومجلس إدارة جديداً. ثم بعد سنوات عاد منصب وزير الإعلام.
هذه الحالة مجرد مثال صارخ على تراكم الدهون على جسد الدولة، وما مصر بحالة فريدة في العالم العربي، من حيث زيادة الدهون. وزارات الصحة في جل دول العالم العربي بعد «كورونا» أيضاً تحتاج إلى إعادة النظر فيها. لتصبح الوزارة مجرد هيكل إداري ومالي، وتترك مهنة الطب للمستشفيات ومجالس إدارتها. أما البحث العلمي في مكافحة الأمراض، فيجب أن يعمل كمؤسسة مستقلة. ويجب البحث عن نماذج عالية الكفاءة كرديف لوزارات الصحة.
دائماً نسمع في العالم العربي مسألة «تضافر الجهود»، أي أن جميع المؤسسات تلتف حول بعضها، كما ضفيرة، وتنسق العمل بينها، ولكن الناظر إلى مستوى التنسيق بين الوزارات، يرى أنها كانت مفككة، لا متضافرة، وكل منها يغني على ليلاه.
إذا كان مستوى التنسيق بين أجهزة الدولة المختلفة هو علامة من علامات رشاقة الدولة، فإن التخبط يصبح أولى علامات بدانة الدولة.
سيكتشف قادة الكثير من الدول بعد «كورونا»، أن هناك مؤسسات تكرر وظائف مؤسسات أخرى، ولا بد من إلغاء هذا التكرار الذي يمثل دهوناً زائدة في جسم الدولة. ومن هنا سيتم تقليص حجم هذه المؤسسات، وإلغاء بعضها، وربما استبدال أخرى بها كظهور هيئات جديدة متخصصة بالأوبئة خارج إطار وزارات الصحة. والعمل على تسليك ما يربط المؤسسات ببعضها البعض لتعمل كما تروس الساعة معاً، كل تؤدي وظيفتها بدقة.
الدولة البدينة ذات الطبقات الكثيرة من الأجهزة، ستكون من الماضي بعد «كورونا»، ويظهر بعدها نموذج جديد للدولة الرشيقة. ورغم ما يقال عن أن الدول الديكتاتورية نجحت في التصدي لفيروس «كورونا»، بدرجة أفضل من الديمقراطيات، إلا أن دولة ما بعد «كورونا» الرشيقة ستترك الكثير من وظائفها لهيئات المجتمع المدني، ويتسع المجال العام بما يسمح للمجتمع بالتنفس.
«كورونا» قد يمثل تقلصاً شديداً لأعداد الدول البدينة في العالم، هذا إن لم نقل إن «كورونا» سيقضي على فكرة الدولة البدينة كلها. كونوا بأمان.