بقلم: د. جبريل العبيدي
الانتخابات التونسية أظهرت مفاجأة أذهلت الكثيرين، وجود مرشحين «من خارج المنظومة»، وصفتها الصحافة التونسية بالزلزال، حيث انهزم فيها تيار الإسلام السياسي وتقهقر، ممثلاً في هزيمة عبد الفتاح مورو والجبالي وحتى المرزوقي ثالثهم المتقاطع معهم في المصالح، وجميعهم حصل على نسب متدنية مخجلة، أظهرت ضعف شعبيتهم، رغم دفع منظومة الإخوان مناصريها للتصويت لهم، وتقدم من هو ليس بالحزبي ولا الفئوي ولا ينتمي إلى جماعة، ولا الذي هو قام بحملة انتخابية ضخمة، إنه الحقوقي قيس سعيد، عربية فصحى يتكلمها الأكاديمي الذي فضل المشي في شوارع وأزقة ودكاكين ومقاهي تونس ليلتقي شعبها يحدثهم ويحدثونه، وجهاً لوجه، وقاطع الظهور الإعلامي والتلفزيوني، بل ورفض حتى ما قدمته الحكومة من دعم لجميع المرشحين للدعاية الانتخابية، التي لم تكن جُل همه، وبرز فيها أيضاً الإعلامي نبيل القروي، الذي خاض الجولة الأولى خلف القضبان.
الناخب التونسي فضَّل أن يعطي صوته لمن رأى أنهم بعيدون عن السلطة الحاكمة، وحتى التي كانت حاكمة، فهو صوّت بشكل عقابي لجميع من كانوا أو ما زالوا في السلطة كيوسف الشاهد والمرزوقي هو الآخر، بل إنه عاقب حتى أنصار النظام السابق مثل عبير موسى، (فمن ينتخب المسؤولين الفاسدين، هم المواطنون الصالحون الذين لا يدلون بأصواتهم)، ولهذا خاض الشعب التونسي الانتخابات بنسبة لا بأس بها تجاوزت 45 في المائة من إجمالي الناخبين.
وإن كانت قد ظهرت أصوات تغمز بوجود تقارب بين قيس سعيد وحركة النهضة، وأنها ترى فيه الآن عصفورها النادر، بل وأنه كان على قائمة اختياراتها، ولكن هذا الأمر لا يمكن أخذه مأخذ الجد لأنه مبني على تقاطع أفكار عامة كان ينادي بها قيس سعيد قبل ترشحه، من بينها رفضه للمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة ورفضه للمثليين، الأمر الذي قبل به عبد الفتاح مورو، بينما رفضه قيس سعيد، جُل هذه الأفكار والرؤى ليست حكراً على جماعة أو حركة النهضة، فكثير من التونسيين كان يعبر عنها ومنهم قيس سعيد، وبالتالي لا يمكن قراءتها على أنها حالة تقارب مع حركة النهضة.
افتقار قيس سعيد لأي مشروع واضح، وكذلك لكتلة برلمانية لكونه لا ينتمي لأي حزب، سيجعل من فوزه برئاسة تونس، أشبه بالمغامرة بالرئيس المعزول، بسبب العجز أمام البرلمان، وخاصة أن صلاحيات الرئيس محدودة أمام سلطة البرلمان، ما لم يحدث قيس سعيد أي تحالفات مع القوى الوطنية الوسطية، أو أنه سيصبح العصفور النادر للنهضة، أو البقاء معزولاً في قصر قرطاج إن كتب له النجاح في الجولة الثانية، وجميعها فرضيات تحمل المفاجأة.
من بين أسباب خسارة النهضة هو الانقسام داخل الحركة ذات التوجهات الإخوانية، والذي عبر عنه القيادي في الحزب، رفيق عبد السلام، بالقول إن «اختيار مرشح داخل النهضة خيار خاطئ ولا يستجيب لمقتضيات المرحلة» في ظل إصرار مرشح النهضة على التأكيد على مرجعية الحركة الإخوانية بالقول إن «حركة النهضة لن تغيّر جلدها، وهي باقية على مرجعيتها» الأمر الذي يفهم على أنه استمرار في نهج التبعية لجماعة الإخوان ومنهجها.
يعتري كل من التحول الديمقراطي والتغيير السياسي في العالم العربي عموماً وتونس ليست استثناء، الكثير من العلل والإشكاليات والتجاذبات، وظهور محاولات للهيمنة واحتكار الديمقراطية، أغلبها يقودها تيار الإسلام السياسي الشغوف بالسلطة قبل الدعوة رغم أنها شعاره المعلن.
انتخابات تونس تقدم فيها الرجل الروبوت قيس سعيد كما يصفه بعض منتقديه لحركته الثابتة، والمسترسل دائماً في حديث بلسان عربي فصيح، ندر اليوم بيننا من يتقنه دون أن يلحن في القول، كما تقدم فيها نبيل القروي، الذي يتهمه القضاء بتهمة غسل أموال، لا يزال رهن التحقيق بسببها، الأيام ستكون كفيلة بالإجابة عمن سيكون ساكن قصر قرطاج القانوني أم السجين.