بقلم :د. جبريل العبيدي
محاولات التخلص من اللاجئين السوريين في العالم، خصوصاً بعد حرب أوكرانيا وانشغال أوروبا برعاية اللاجئين الأوكرانيين على حساب السوريين طبعاً، هو ما شجع الحديث عن استقطاع منطقة آمنة في داخل الأراضي السورية، لإعادة السوريين الهاربين من ويلات الحرب والصراع إليها.
وبينما تُعرّف «هيومان رايتس ووتش» المناطق الآمنة بأنها «مناطق تتوافق عليها الأطراف المتصارعة في نزاع ما، وتمتنع القوات المقاتلة عن دخولها أو شن هجمات عليها»، إلا أنه في الحالة السورية يختلف التعريف، إذ إن إحدى الدول المتدخلة في الصراع السوري لصالح طرف على حساب آخر، وهي تركيا، من يسعى إلى إنشاء المنطقة «الآمنة» بشروطها، مما سيجعل منها منطقة نزاع، بل قد يعتبرها الطرف السوري منطقة احتلال بغض النظر عن الرأي في النظام السياسي.
الحديث عن منطقة «آمنة» من دون وجود أي ضمانات دولية ولا حتى إقليمية، أو حتى أي معيار أو تعريف قانوني دولي لهذه المنطقة، مثل من سيحميها، وممن سيحميها، ومن هم لهم حق السيادة عليها وتحت أي سلطة ستكون، ومن سيمول أي مشاريع داخلها؟ أسئلة كثيرة لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها. فمحاولات فرض القبول بمنطقة «آمنة» على النظام السوري كشرط تعجيزي لأي تفاهمات حول تطبيع وإعادة علاقات مع النظام السوري القائم، يعد حقاً أريد به باطلاً، فأولاً يجب التفريق بين خلاف سياسي مع النظام السوري، وبين سلامة ووحدة الأراضي السورية، من أي استقطاع تحت أي مبررات، فوحدة التراب السوري تعد خطاً أحمر، لا يمكن القبول بتجاوزه واستقطاع أجزاء من الأراضي السورية تحت أي مبرر حتى لو كان هو الخلاف مع النظام السوري، فلا يمكن لأي دولة القبول بهكذا مشروع، مما لا يمكن تفسيره إلا ضمن استقطاع أراضٍ عربية سورية، ستنتهي إلى توطين جماعات أو قوميات فيها هي في حالة عداء مع الوطن الأم سوريا، خصوصاً في ظل وجود سوابق تاريخية انتهت باستقطاع أراضٍ عربية ابتلعتها بلدان أخرى؛ مثل الأحواز العربية ولواء الإسكندرون السوري والجولان ومزارع شبعا وجزر طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى الإماراتية وسبتة ومليلة المغربيتين ومنطقة شريط أوزو الليبي.
الحديث عن إنشاء أو استقطاع منطقة «آمنة» بمفهوم إقليمي أحادي الرؤية لإحدى دول التدخل في الصراع السوري، سيجعل من تلك المنطقة «آمنة»، وفق مفهوم ومنظور أحادي، وليس وفق معيار دولي مما سيجعلها شبه مأوى للهاربين والفارين من العدالة، بل وقد تصبح منطلقاً لأي أعمال عنف في المنطقة، ناهيك عن تسببها في تغيير ديموغرافي قد ينتهي باستقطاع تلك المنطقة وتحولها إلى شبه «دويلة» فاشلة أو تابعة في أحسن أحوالها، مما سيجعلها خنجراً في خاصرة الوطن الأم.
إجبار السوريين على العودة إلى سوريا، والزعم بإنشاء منطقة «آمنة» لهم داخل الأراضي السورية، بدون أي ضمانات، يعد محاولة خبيثة بجميع المعايير وعودة قسرية لللاجئين السوريين، وإقناع دول الملجأ بإعادتهم تحت ذريعة المنطقة «الآمنة»، على الرغم من أن تصريحات الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ونائب رئيس المفوضية الأوروبية، جوزيب بوريل، تتناقض مع القائلين بجهوزية المنطقة «الآمنة» والترويج لها، إذ قال المسؤول الأوروبي، إن «موقف الاتحاد الأوروبي فيما يخص العودة لم يتغير، وإن الاتحاد يتفهم ويدعم تطلعات بعض السوريين للعودة الطوعية إلى ديارهم، إلا أن الظروف اللازمة للعودة على نطاق واسع لم تتوفر بعد».
فالحديث عن توطين ثلاثة ملايين سوري في مناطق «آمنة» يعد أكذوبة كبيرة، وما هي إلا دليل على العبث بالفسيفساء والديموغرافيا السورية، التي هي الترجمة الحقيقية للتهديدات والمطامع التركية في مناطق شمال وشرق سوريا قديمة متجددة، ولا تختلف عن مطامع تركيا الطورانية في الموصل العربية العراقية، فالمطامع في الاستحواذ على الأراضي السورية قديمة متجددة، وليس احتلال تركيا السابق للواء الاسكندرون ببعيد.
المناطق «الآمنة» ما هي إلا محاولات للعبث بالديموغرافيا، سواء في منبج وعين العرب السوريتين، أو غيرها بين تهجير وتوطين وطرد للسكان الأصليين، من المناطق التي تسيطر عليها تركيا في سوريا، بل وصل الأمر إلى استخدام اللغة والعملة التركيين مثلاً في التعاملات، إلى افتتاح كليات جامعية تركية في سوريا، الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا في إطار الاحتلال وتغيير الديموغرافيا تحت اسم المنطقة «الآمنة» التي ستكون فاشلة لأسباب كثيرة لوجيستية وأخرى سياسية كمعارضة أميركا ودول فاعلة لأي محاولة لإبعاد المعارضين الأكراد السوريين عن المنطقة «الآمنة» افتراضياً.