بقلم: د. جبريل العبيدي
أظهرت جائحة «كورونا» وجهاً آخر لبشاعة التفرقة العنصرية، واحتكار توزيع اللقاح ضمن منظومة الدول المصنعة، خصوصاً دول الاتحاد الأوروبي في عمومها، حيث ظهرت أصوات بل وقرارات تمنع خروج اللقاحات خارج دول الاتحاد قبل الاكتفاء الداخلي، وإتمام عملية التلقيح داخل الاتحاد، في مقابل ظهور أصوات قليلة ومبادرات محدودة تطالب بتعليق العمل باتفاقيات الملكية الفكرية المتعلقة بإنتاج اللقاح، وتطالب بتبادل التكنولوجيا المتعلقة بتصنيع اللقاح المضاد للفيروس الشرس، الذي لم يفرق في الإصابة بين شعوب العالم، وبالتالي يجب أن يكون حق العلاج ومقاومة الفيروس متاحاً للجميع، خصوصاً أن الفيروس عابر للقارات والحدود ولن تمنعه أي حواجز، وبالتالي بقاء دول وشعوب من دون تلقي اللقاحات سيكون بؤرَ وباءٍ ستعيد الجائحة إلى المربع الأول، وتفسد الجهود الضخمة التي بذلت، وبالتالي من الحكمة منع الاحتكار للقاح المضاد.
منظمة التجارة العالمية بذلت جهداً لمنع الاحتكار تحت شعار «الطريق الثالث» الذي تقترحه لمنع الاحتكار لإنتاج اللقاح، خصوصاً بعد تصريحات تيدروس أدهانوم غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، التي جدد فيها الدعوة لمصنعي اللقاحات لتبادل المعرفة من خلال تبادل التكنولوجيا المتعلقة بـ«كورونا» (C - TAP)، وهي آلية لتبادل المعرفة والبيانات حول اللقاح.
احتكار لقاحات «كورونا» يعد انتهاكاً واضحاً لحقوق الإنسان، ولا بد من محاربته ومنعه، وطالب غيبريسوس بأن «الحصول العادل لكل دول العالم على لقاح فيروس كورونا المستجد هو في مصلحة كل بلد، واحتكار دول بعينها للقاح سيطيل من أمد الجائحة ولن يختصرها».
لا بد من إيجاد طريق ثالث لجعل اللقاح متاحاً إنتاجاً وتوزيعاً للجميع، ومنع الاحتكار، في ظل وجود دول غنية تشتري المزيد من اللقاحات، بكميات كبيرة وهائلة تزيد عن حاجة سكانها، مما يجعل الدول الفقيرة في خطر دائم ومستمر لعجزها مالياً ولوجيستياً عن الحصول على اللقاح، في ظل ضعف برنامج «كوفاكس» (COVAX)، الذي يسعى لتوفير دفعات من اللقاح للدول الفقيرة بدعم من بعض الدول الغنية، ولكن البرنامج لا يزال متعثراً، نظراً لسياسات الاحتكار المتعمد من بعض الدول الكبرى التي تراهن على الربح المالي، من دون النظر لخطر بقاء دول بلا لقاح يمنع انتشار الفيروس، ضمن ما يعرف بمنعة الجموع (القطيع).
حرب اللقاحات لا تزال تعرقل الجهود العالمية للوصول إلى مناعة الجموع التي تعد الحاجز الوقائي الأمثل لمنع انتشار الفيروس، فالحروب بين روسيا والصين والاتحاد الأوروبي حول الاعتراف باللقاحات المنتجة في البلدان التي ليست بلدانهم ظاهرة للعيان، فالصين مثلاً أصدرت قرارات صارمة بأنها لن تسمح بمنح تأشيرات دخول إلا للذين تلقوا اللقاح الصيني، في ظل عدم اعتراف به في الاتحاد الأوروبي، وكذلك اللقاح الروسي، رغم ثبات فاعلية واضحة، مما يجعل الأمر مجرد مناكفات سياسية تدخلت في البرامج العلمية، ولعل صفقة سرية لشراء اللقاح الروسي التي أطاحت بالحكومة السلوفاكية، والتي كانت تتضمن حصول سلوفاكيا على مليوني جرعة من لقاح «سبوتنيك في» الروسي المضاد لـ«كورونا»، الذي لم تتم الموافقة عليه في الاتحاد الأوروبي، هي وجه آخر لحرب اللقاحات، في مقابل صمت أوروبي عن تقارير علمية تتهم لقاح «أسترازينيكا» بالتسبب في جلطات لعدد ممن تلقوا اللقاح، بل ظهرت توصيات أوروبية تخفف المخاوف من «أسترازينيكا»، في ظل عدم التعاطي مع اللقاحين الصيني والروسي؛ الأمر الذي يضر بالمصداقية العلمية، وأن المنع سياسي بحت.
استمرار احتكار إنتاج وتوزيع اللقاح ستكون نتائجه كارثية، مع وجود دول تلقى 100 مليون من مواطنيها اللقاح، مقابل دول أخرى لم يتلقَ أي فرد من مواطنيها جرعة واحدة يتيمة، ولا أمل لها قريباً في الحصول على اللقاح.