بقلم: د. جبريل العبيدي
ودعت الكويت والعرب والعالم «أمير الإنسانية»، وصاحب لقب «قائد العمل الإنساني» من الأمم المتحدة؛ الشيخ صباح الأحمد الجابر المبارك الصباح؛ أمير دولة الكويت الخامس عشر، والخامس بعد الاستقلال، والمهندس الاستراتيجي للدبلوماسية الكويتية العربية.
«أمير الإنسانية» تبنى سياسة واضحة بالنأي بالكويت عن التدخل في شؤون الغير، مما مكنه من لعب دور الوسيط النزيه في كثير من الأزمات العربية؛ ومنها الأزمة الخليجية مع قطر، وكذلك الأزمة الليبية؛ حيث كانت رؤيته أن «التدخلات السلبية الخارجية ساهمت في المد من عمر الأزمة الليبية»، خصوصاً التدخل التركي والغزو العثماني الجديد لبلاد العرب الذي ليس خافياً. فقد كان «أمير الإنسانية» داعماً مستمراً لجمع الأطراف الليبية إلى طاولة حوار واحدة لتحقيق التسوية السلمية للأزمة الليبية، وكان من أهم الداعمين لـ«مؤتمر برلين» حول ليبيا.
الأمير الراحل كان رائد الثقافة والعلم والمطبوعات، فالشيخ صباح هو الذي أمر بإصدار مجلة «العربي»؛ أشهر مطبوعة عربية ثقافية في الوطن العربي، التي جمعت المثقفين العرب حولها، والتي وصفها الراحل صباح الأحمد، عند تصدير المجلة في عددها الأول، بأنها «هدية الكويت للعرب»؛ فليس هناك مثقف عربي معاصر أو راحل لم يقرأ مجلة «العربي» الكويتية. ولهذا نعته الكاتبة أحلام مستغانمي بأنه «صاحب الروح المُحبّة المسالمة، رحل مُتعباً بنا، فقد كانت له قرابة بأوجاعنا، وقضى العمر في لمّ شملنا، واحتضان يتامى هذه الأمة».
أمير الإنسانية في عهده أنشأت دولة الكويت «صندوق الحياة الكريمة»، لمواجهة أزمة الغذاء العالمية، وتبنت الكويت دعم برنامج يمول البحوث العلمية المتصلة بالطاقة والبيئة والتغير المناخي.
ولهذا كان في حب أمير الإنسانية حكاية ورواية وصورة في القلوب بمختلف جنسياتها، ففي محاولة تعبير شعبي عربي خليجي عفوي عن حب أمير الإنسانية، كانت اللوحة الفنية المحفورة على الرمال الأولى والكبرى في العالم، حيث بلغت مساحتها أكثر من 170 ألف قدم مربعة، والتي التقط القمر الصناعي الإماراتي «خليفة سات» صورة متكاملة الملامح والتفاصيل لها.
أمير الإنسانية لم تفارق الابتسامة وجهه، وهو المثقل بهموم الزمان، فهو الذي توفيت والدته وهو ابن أربع سنين، وغيّب الموت زوجته قبل ثلاثين عاماً، وفقد ابنه في حادث سير، وفقد ابنته الوحيدة بسبب المرض، وظل مبتسماً محباً للإنسانية خادماً لها... ولهذا أحبه الناس.
أمير الإنسانية نعاه القادة؛ وأولهم الملك سلمان بن عبد العزيز بالقول إنه «رحل بعد مسيرة حافلة بالإنجاز والعطاء»، ونعاه الرئيس السيسي بالقول: «فقدت الأمة العربية والإسلامية قائداً من أغلى رجالها»، وتوالت التعازي في الأمير الراحل، وأدى المصلون بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، صلاة الغائب على الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، الذي ووري جثمانه الثرى في مقبرة الصليبيخات بالكويت.
الشيخ صباح حالة نادرة بين القادة، جمع بين الإنسانية والسياسة والثقافة، فكان وطناً في رجل، وغيابه اليوم سيكون فاجعاً للجميع لفقدان عزيز غيّبه الموت، وقائد ندر وجوده.
يعدّ الراحل مهندس السياسة الكويتية منذ توليه حقيبة «الخارجية» طيلة أربعين عاماً، ولهذا كانت السياسة الكويتية ثابتة ومستقرة ومتزنة، ولا تزال رائدة في مجال الحفاظ على حالة التآخي العربي، منذ مشاركته في عام 1972 في إبرام اتفاق السلام بين شطري اليمن لوقف الحرب الأهلية، وفي عام 1980 قام بوساطة ناجحة بين سلطنة عمان وجمهورية اليمن للصلح بينهما.
الجمع بين الحكم والحكمة والبساطة والتواضع ومسؤوليات الدولة، والتسامح حتى مع غدر الجار الشقيق حين غزا بلاده، في غفلة من الزمن، يجعل من الراحل شخصية تتسامى على الثأر وتوريث الجرم، وتكتفي باستعادة حقوق بلادها، ولا تتنازل عنها، ولهذا كان الراحل شخصية استثنائية في عالم السياسة.