بقلم - جبريل العبيدي
عام 2021، لأول مرة يصوم الليبيون منذ سنوات من دون حروب وقتال، ومن دون سماع أصوات المدافع والرشاشات وتساقط الصواريخ العشوائية، أما في العام الحالي 2023 فقد حدث شقاقٌ جديدٌ، وخلاف لدرجة أنه كان لشرق البلاد هلالٌ، ولغرب البلادِ هلال آخر لذات القمر.
بداية الخلاف كانت بين مؤسستين تتنازعان صلاحية رؤية الهلال، الأولى هيئة الأوقاف الإسلامية، وهي المخول إليها الأمر بحكم قرار مجلس النواب، بينما تنازعها دار الإفتاء التي حُلّت والمفتي المعزول بحكم قرار مجلس النواب رقم 8 لسنة 2014 الذي قضى بحل دار الإفتاء، وعزل المفتي صادق الغرياني، بعد اتهامات له بالتحريض على الاقتتال، وجنوح كبير ومغالاة في الفتوى والتشدد، ورفض أي نوع من الجنوح للسلم.
الخلاف بين المؤسستين تسبب في انقسام مجتمعي كبير جداً، لم تتمكن القوى السياسية ولا المسلحة من إحداثه، رغم سنوات قتالها واحترابها لدرجة القتال المسلح، فخلاف المؤسستين الدينيتين كان كارثة كبرى تسببت في أن يعيّد الأب في يوم، وأبناؤه وأحفاده في يوم آخر، رغم أنَّهما يسكنان نفس البيت.
هيئة الأوقاف المنوط بها الأمر وضمن اختصاصها أعلنت الجمعة عيد الفطر وغرة شهر شوال، طبقاً لشهادة الشهود التي جرى إيداعها أمام المحاكم الابتدائية في مناطق الشهود، ومنها مدينة أجدابيا شرق ليبيا، ومدينة هون جنوب ليبيا، ومدينة مصراتة غرب ليبيا، وغيرهم من الشهود الذين قبلت المحاكم شهادتهم، وعلى أساسها أعلنت هيئة الأوقاف الجمعة الأول من شوال في ليبيا، ليتفاجأ الليبيون بظهور الصادق الغرياني (المفتي المعزول بحكم قرار رقم 8 لسنة 2014) من مقر إقامته في (إسطنبول؟!) عبر فضائية يديرها ابن له من هناك، قناة «التناصح»، معلناً أن العيد يوم السبت في تحدٍ لهيئة الأوقاف التي لا تتوافق مع أفكاره «المذهبية»، رافضاً شهادة الشهود، وقد وصفهم بشهود زور، وأنَّهم تحت سلطة «حفتر»، بل وصف جميع الدول التي أعلنت العيد الجمعة بأنَّها مخطئة، وعليها كفارة ستين يوماً، رغم أنَّه في كتابه «مدونة الفقه المالكي وأدلته»، أقر بجواز اتباع رؤية الهلال في شرق البلاد، وقال نصاً في كتابه «العبادات»: «إذا ثبتت رؤية في المشرق صام أهل المغرب بتلك الرؤية دون العكس».
فلماذا إذن ناقض الغرياني حتى كتابه الصادر عام 1991؟ والذي أفتى فيه بجواز اعتماد رؤية أهل المشرق العربي، أليست برقة من مشرق ليبيا؟ أليست مصر من المشرق العربي وكذلك السعودية ودول الخليج مشرقية لليبيا جميعها؟
الغرياني الذي أعلن فتواه المخالفة للجميع كان بإسطنبول البلد نفسه الذي أعلنت السلطات فيه العيد يوم الجمعة، وإذا عددنا تركيا من أهل الشرق فهي ملزمة لنا وفق كتاب الغرياني نفسه، وإذا كانت من أهل المغرب، فكيف لها أن رأت الهلال؟ وهل «تركيا» حيث إقامة الغرياني، وحيث صام ملزمة بكفارة الستين يوماً، مثلها مثل من خالف الغرياني في فتواه العجيبة والمخالفة حتى لكتب الغرياني نفسها؟!
لا تفسير لما حدث سوى أن الإجابة لما حدث هي عند من طلب من الغرياني الظهور عبر فضائية تبث من تركيا، لإعلان فتوى تكون بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
بعد أن فشل معارضو التوافق الليبي - الليبي في عرقلة المسارات المختلفة المدنية والعسكرية (5 5) وغيرها، والتي حققت تقدماً كبيراً في حلحلة المختنقات في الأزمة الليبي، وبدء لجنة (6 6) بين مجلسي النواب والدولة لكي تسنَّ قوانين انتخابية متفقاً أو متوافقاً عليه، كل هذا التقدم أزعج أنصار الغرياني الرافضين لأي تقارب بين شرق البلاد وغربها، فكانت البداية ببيان للميليشيات المسلحة الموالية للمفتي المعزول رفضت فيه جميع المسارات، ليختمها المفتي المعزول بفتوى الشقاق والخلاف حول العيد.
هذا الجنوح عند السيد الغرياني، وزعمه بأنَّه الصواب والجميع خطأ بمن فيهم أكثر من 14 دولة عربية وإسلامية أعلنت العيد يوم الجمعة، لا بد من التوقف عندهما، ودراستهما لأنهما تحولا إلى ظاهرة خطيرة لا يمكن السكوت عنها لخطورتها على السلم المجتمعي في ليبيا خصوصاً، وفي العالم الإسلامي عموماً كون الرجل شكك في الجميع، رغم أنه في عامي 2014 و2020، أعلن العيد على ما انتهت إليه الدول العربية من الجوار برؤية الهلال، بل أقر تلك الرؤية، وعليها بنى فتواه في هذين العامين، فلماذا هذا العام 2023 خالف الجميع؟
هذا الرجل لا يحضُّ إلا على الفتنة التي هي أشدُّ من القتل، ومصيره معروف عند ربه، بما فعله من فتنة قسَّم بها البلاد والعباد.
رغم العيدين والهلالين لقمر واحد في ليبيا، فإن مخططات التقسيم بدءاً من مخطط «سباستيان غوركا» لتقسيم ليبيا التاريخي، إلى محاولات هؤلاء اليوم، فشلت في تقسيم البلاد، وليبيا بقيت سالمة، دولة غير قابلة للتقسيم، بل استطاعت تجاوز جميع مشاريع إعادة تقسيمها.