بقلم: د. جبريل العبيدي
الفاتح من سبتمبر (أيلول) 1969 كانت ليبيا مع تغيير كبير في الواقع المحلي والسياسة الداخلية والخارجية، حيث اعتلى الحكم في ليبيا من كانوا يسمون «الضباط الوحدويون الأحرار»؛ بعد إعلان انقلاب عسكري لم يعلن في البدء اسم مدبره وقائده، الذي اتضح أنه ضابط صغير برتبة ملازم أول سرعان ما تمت ترقيته لرتبة عقيد خلال ساعات، ليعلن للعالم ميلاد «ثورة» في خطاب موجه مكتوب بدقة لم يغفل فيه كاتبه طمأنة الأجانب والقواعد الأجنبية، بالقول إنه عمل داخلي وليس خارجياً.
انقلاب سبتمبر 1969 يلاحقه كثير من الروايات المخالفة لما أعلنه «الضباط الوحدويون الأحرار»؛ فهناك من يقول إن الأصح هو تسميته حركة blackboots الأحذية السوداء، التي كان يجتمع بعض أفرادها في قاعدة ويلس Wheelus Air Base في طرابلس للتآمر على الدولة والتمرد عليها، الأمر الذي يعد خيانة للوطن في منظور من يؤمن بهذه الرواية التي يراها البعض مؤامرة استخباراتية دولية، لإنهاء حكم ملك صالح رفض الهيمنة الأميركية على النفط الليبي وتبديدها على نزاعات ودعم للأعمال القذرة، نيابة عن المخابرات الأميركية، فجاءت بهؤلاء.
وإن كان خروج القواعد جميعها ومنها الأميركية بعد عام من انقلاب سبتمبر، والصدام المباشر بين القذافي وأميركا، التي كان يعتبرها «راعية الإمبريالية العالمية»، لدرجة محاولة قتله في عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان بقصف منزله في باب العزيزية، يعتبر دحضاً لرواية الأحذية السوداء، بل ويعتبرها محط سخرية ممن كتب فصولها، التي يرى بعض أنها مسرحية كتبها أحد أتباع تنظيم (جماعة الإخوان المسلمين)، وعزَّزها بتلفيقات أخرى عن أصول القذافي، رغم أن نسب القذافي لقبيلة القذاذفة الليبية معروف ومعلوم.
مرَّ أكثر من خمسين عاماً على انقلاب سبتمبر، الذي خاض حرباً على البرجوازية والإقطاعية في البلاد، وسار في محاولة إصلاح القطاع الزراعي، ومحاربة احتكار المال، لدرجة مجاراة الاشتراكية بنكهة ليبية أطلق عليها «النظرية العالمية الثالثة» (الكتاب الأخضر)، وأطلق مشروع «شركاء لا أجراء» ومنع الاقتصاد الحر، والملكية الخاصة، وأوجد بدلاً منها الملكية الجماعية، ضمن إطار التشاركيات بدلاً من الشركات، ونظام الموزع الفرد بدلاً من التاجر في محاكاة شبه صريحة للاشتراكية الماركسية. لكنه أخطأ المسار وتعرض لكثير من الأخطاء بعد أن اعتمد القذافي على رجال خيمته، بدلاً من رفاق السلاح الذين مات بعضهم في ظروف غامضة مثل المقريف وبعضهم سجن بتهم الانقلاب كالواحدي والحاسي، ومن تبقى منهم تم تهميشه كوزير الدفاع الفريق أبو بكر يونس، الذي فضل الموت مقاتلاً بجانب القذافي، في حين فر وهرب أغلب رجال خيمته المقربين طلباً للنجاة، بعد أن أثقلتهم ضربات حلف الناتو في فبراير (شباط) 2011.
الحقيقة أن القذافي أخطأ مرتين؛ الأولى عندما تخلى عن رفاق «الثورة» واستبدل بهم رجال الخيمة، ظناً منه أنهم أكثر ولاء له ولمشروع توريث «الثورة» ولكن أغلبهم كان الولاء عنده للمال، ولا طاقة له بالتضحية من أجل مشروع العقيد وابنه، والخطأ القاتل الآخر عندما سمح بتحالف ابنه سيف الإسلام مع جماعة الإخوان، وأطلق سراحهم من السجون بل ومكن لهم، وهو يعلم خطرهم ومدى غدرهم، فكانت النهاية لحكمه.
ولكن بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على انقلاب سبتمبر 1969 ومرور ما يقارب ثماني سنوات عجاف أخرى على «ثورة» فبراير، تبقى الحقيقة الراسخة، التي يجب أن يؤمن بها الليبيون هي أن «سبتمبر» انتهت و«فبراير» فشلت في أن تكون ثورة تغيير إلى الأفضل، وتحولت مجرد فوضى ونهب وإهدار للمال العام بعد أن تمكنت منها وتمتطيها جماعات الإسلام السياسي بقيادة التنظيم الشرس؛ تنظيم إخوان البنا، الذين لا يؤمنون بالدولة الوطنية ولا بجغرافيا ليبيا.
بعد نصف قرن من تجارب الثورة والثوار، على الشعب أن يستيقظ من غفوة الثورات و«الربيع العربي» ويساند الجيش الليبي في النهوض لاستعادة الدولة، لكي يعيش في دولة مدنية خالية من الميليشيات والفوضى.