بقلم: د. جبريل العبيدي
سؤال مهم يطرح نفسه، ماذا لو قُتل جورج فلويد في غياب الكاميرات ووسائل التواصل الاجتماعي «فيسبوك» و«تويتر» وغيرهما؟ هل كانت جريمة العنصرية ستختفي كما اختفى كثير من أمثالها في أميركا والعالم؟!
مقتل جورج فلويد جاء ليكشف عن بقايا رأس المشكلة المختبئ، كما هي ظاهرة الجبل الجليديiceberg phenomenon، فحجم المشكلة في المجتمع الأميركي غير محدد بشكل واضح ليمكن معالجته، فجورج فلويد مواطن أميركي من أصل أفريقي، قتله شرطي في 25 مايو (أيار) الماضي في مدينة مينيابولس، في الولايات المتحدة، بالضغط على عنقه، وهو يردد: «لا أستطيع التنفس»، في وقت يصرخ بعض المارة طالبين من الشرطي التوقف، من دون أن يستجيب لهم. هذا الحدث أعاد ذكرى مقتل إريك غارنر قبل 6 سنوات في عام 2014، وهو غير مسلّح، والذي كرّر أيضاً عبارة: «لا يمكنني أن أتنفّس» التي كررها جورج فلويد 11 مرة، بعد أن جلس ضباط من شرطة نيويورك على عنقه.
ولعل تردد القضاء الأميركي في توجيه تهمة القتل من الدرجة الأولى للشرطي فتح الباب أمام تساؤلات عن كيف يُعامل السود أمام القانون في الولايات المتحدة، رغم أن الأميركيين من أصل أفريقي يشكلون نحو 14 في المائة من السكان، حسب إحصائيات عام 2019 الرسمية، إلا أنهم كانوا يمثلون أكثر من 23 في المائة من بين كل 1000 حالة إطلاق نار أدت إلى القتل على يد الشرطة.
ثم أتت تغريدات الرئيس ترمب والتي بسببها كما قيل خرجت المظاهرات عن السيطرة، رغم أن المدعي العام في ولاية مينيسوتا، كيث إيليسون، قال: «إن توجيه تهمة القتل من الدرجة الأولى للشرطي المتهم بقتل جورج فلويد لا يزال ممكناً»، وذلك بعد أعلن الطبيب الشرعي بعد تشريح جثة جورج فلويد أنه قضى «قتلاً» بعدما أصيب بـ«سكتة قلبية» من جراء «الضغط على عنقه».
العنصرية في أميركا قديمة متجددة ولا يمكن تحميلها لعصر ترمب، ولم تستطع أميركا التخلص منها، ورغم عراقة النظام المؤسسي والديمقراطي فيها، إلا أنها بقيت فكراً وظاهرة متجددة تطفو على السطح من حين لآخر، من دون وجود لأي خطوات حقيقية لإصلاح الخلل وردم الفجوة بين الأميركيين من أصول مختلفة، وإن كان الأفارقة أكثر معاناة، بعد معاناة الهنود الحمر.
نال السود الكثير من الحقوق في أميركا، بعد تاريخ حافل من العنصرية؛ فمثلاً كان يُمنع الأسود من الصعود إلى الحافلة من نفس الباب الذي يصعد منه الأبيض، ومنع كثير من السود من الجلوس للتعليم في مقاعد المدارس والجامعة، ولعل روزا لويس باركس أشهر من نطقت بـ«لا» في تاريخ أميركا عام 1955 وذلك بفضها التخلي عن مقعدها في «القسم الملوّن» لرجل أبيض بعد أن طلب السائق.
ولعل قانون العنصرية السابق الذي أعطى الأميركيين البيض امتيازات وحقوقاً من دون باقي الأعراق الأخرى، في مسائل التعليم والهجرة وحقوق التصويت والمواطنة وحيازة الأراضي والإجراءات الجنائيّة طوال التاريخ الأميركي إلى زمن قريب، هو ما تأثر به الشرطي ديريك شوفين الذي قتل جورج فلويد.
فما حدث في أميركا يشبه التعامل مع برميل بارود، كما وصفه رومان هوريت، المؤرخ الأميركي ومدير الدراسات في معهد دراسات العلوم الاجتماعية بقوله «نحن نتعامل هنا مع انفجار برميل من البارود».
العنصرية هي الاعتقاد الخاطئ بأن «هناك فروقاً موروثة بطبائع الناس وقدراتهم لانتمائهم لجماعة أو لعرق ما»، وبحسب إعلان الأمم المتحدة، فإنه لا فرق بين التمييز العنصري والتمييز الإثني أو العرقي. ولكن العنصرية ليست حكراً على أميركا، بل شعوب ودول كثيرة تمارس العنصرية بأشكال مختلفة، ولعل الطبقية متمثلة في طبقة النبلاء والفرسان جزء من تاريخ العنصرية، كما أن القبلية في بعض الدول، رغم ما بها من مزايا، هي أحياناً في وجهها المظلم نوع آخر من العنصرية عندما تستخدم لإقصاء الآخرين، عندما تطغى النزعة العشائرية المتمثلة في الموالاة بشكل تام للعشيرة، ومناصرتها ظالمة أو مظلومة.
مقتل جورج فلويد ستكون له تداعيات مجتمعية لن تقف عند تعديل قائمة الاتهام للشرطة، فالخلل مجتمعي بالدرجة الأولى، أظهر جزءاً من العنصرية المختبئة.