بقلم - جبريل العبيدي
في ظل التوتر على الحدود الليبية الجنوبية بعد أحداث السودان، وتاليتها أحداث النيجر وانقلاب العسكر، وقبلها تشاد، وصراع المعارضة المسلح، ناهيك بالفوضى السابقة في الجنوب الليبي وعبث وتسلل الجماعات التخريبية وغيرها من الميليشيات المسلحة... كان كل ذلك سبباً مباشراً وراء عمليات الجيش الليبي في الجنوب، التي جاءت لتصحيح الأوضاع وضبط الأمن وإعادة الاستقرار، بعد أن أصبح الجنوب الليبي المنسي بين محتل ومستباح من قبل ميليشيات أجنبية مسلحة تستخدم الأراضي الليبية منطلقاً لها، مستغلة الفراغ السياسي والأمني في جنوب ليبيا، مما جعل بعضها يطمع في ثروات البلاد؛ بل حاول بعضهم توطين جماعات ذات امتداد قبلي في ليبيا مكان السكان الليبيين، بحجة أنهم أبناء عمومة، لدرجة ارتكبت معها مذابح عرقية في الجنوب الليبي المستباح، فليست تمنهنت المحتلة وحدها، فأرض وادي إيسين محتلة، وجبال تبستي واوزو وصحراء السارة وغات؛ حدود جغرافيا ليبيا التي نعرفها، مستباحة، وأشبه بالمحتلة، ولكن يبدو أن جغرافيا الوطن قد تغيرت عند حكام ليبيا الجدد، فما يحدث في الجنوب الليبي لا تنشغل به حكومة الدبيبة، التي رأيناها وهي تتسابق على أبواب تل أبيب لولا رد الفعل الشعبي، كأن الجنوب عبء ثقيل تتجنبه، في حين كان الأجدر بها الوقوف عنده وفهمه وهل نحن أمام غزو واحتلال أجنبي للجنوب من ميليشيات وعصابات تشادية ونيجرية وأخرى محلية.
أسئلة متعددة ولا إجابة في ظل وجود حكومة تحمل اسم «الوحدة الوطنية»، ولكن بقيت أعمالها في حدودها طرابلس وما جاورها، وهمّها وشغلها الأوحد البقاء فترة حكم أطول عبر تمديد غير شرعي، أو حتى التحالف مع نتنياهو وكوهين وإطالة عمر الحكومة التي لا همّ لها إلا أن تخرج من مختنق سحب الثقة في ظل التجاذبات السياسية.
نسيان الجنوب، رغم أنه مصدر ثروات ليبيا جميعها من النفط والماء والغاز والذهب وحتى اليورانيوم، هو لانشغال الساسة في الشمال بالصراع على الكراسي والسلطة؛ لأنها متمركزة في العاصمة طرابلس دون سواها، خصوصاً أن النظام السابق اختزل ليبيا في طرابلس وأن من يحكمها يحكم ليبيا، رغم وجود معارضة شديدة في ليبيا عامة، وشرقها خصوصاً، للنظام المركزي في ليبيا، وخروج دعوات تطالب بعودة النظام الفيدرالي للتقليل من التهميش، وتحقيق جزء من العدالة المجتمعية الغائبة.
لعل الإصرار على أن الشعب 100 في المائة كان مطالباً بالتغيير ومناصراً لـ«حراك فبراير (شباط) 2011»، هو إصرار وتشخيص خاطئ، ولكن توصيف الحرب الأهلية، والجدل حوله، أن الحرب الأهلية تكون لأسباب قبلية أو مناطقية أو جهوية، وليست مناصرة أو معاداة نظام، ففي الحالة الليبية كانت في البدء الحرب بين فئة ثائرة عليه، وأخرى تابعه له مخلطة من جميع الفئات، ولكن اليوم اختلفت الحالة، مما تسبب في الاختلاف على التوصيف؛ الحرب الأهلية اشتعلت أم على وشك. ولكن هذا التوصيف ليس مهماً؛ لأن الحالتين خطر ودمار لليبيا، في ظل غياب تام للحوار وتغييب أطرافه، وتأخير المصالحة الوطنية بعد أن تمسك البعض بـ«قميص عثمان»، وطالب البعض الآخر بعودة «رأس الحسين»، بينما فريق ثالث يريد «كُليباً حياً»، فيما الجنوب الليبي عرضة لهجرة الجوع والمرض والموت، والتي تعصف بشواطئ ليبيا عابرة الصحراء، والمسماة «الهجرة غير المشروعة» وهي خطر آخر يهدد ليبيا ومن جاورها، وإن كانت التسمية في ذاتها تفوح منها العنصرية في التعريف، تجاه فئة أجبرتها الظروف على الهجرة وعبور الحدود؛ سواء أكان الجوع ما دفعها أم الحروب والنزاعات، ولكن هذا لا يحصنها من النقد والرفض ولا يجعلها مقبولة، لتسببها في مشكلات أمنية وصحية وانتشار أوبئة وأمراض من بيئة إلى أخرى، جراء التغيير الديموغرافي الذي قد تسببت فيه، مما يساعد على انتشار بعض الأمراض، خصوصاً إن كانت أماكن الاحتجاز لا تتوفر فيها شروط الحجر الصحي، وقد تتسبب في انتشار أمراض وبائية؛ لأنهم سيستخدمون مصادر المياه ذاتها والصرف الصحي العام، مما يشكل خطراً بيئياً ينعكس على الصحة، في ظل عجز النظام الصحي عن الإيفاء بمتطلبات الكشف المبكر عن الأمراض في مراكز احتجاز «الهجرة غير المشروعة»، كما أن المنظمات ذات العلاقة بالهجرة، ومنها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تهدف إلى توفير الحماية الدولية للاجئين، وإيجاد الحلول الدائمة لقضاياهم، لكننا لا نرى شيئاً من هذا.
ولأن الضرر الصحي الناتج عن انتقال أمراض من بيئة لأخرى يحتاج لتكاتف دولي، فالخطر الأمني والصحي لا يواجه ليبيا وحدها؛ فهؤلاء وجهتم أوروبا، وبالتالي لا بد من توفير مواقع ترحيل تتوفر فيها مختبرات طبية وبها عناصر طبية مدربة للكشف المبكر عن الأمراض، بالإضافة إلى تقديم الخدمة الصحية وسرعة التبليغ عن الأمراض ذات الطبيعة سريعة الانتشار، كما أن منظمة الهجرة الدولية هي الأخرى لا تقدم أي خدمات فعلية حقيقية لعلاج مشكلة الهجرة غير المشروعة، مما يساعد على تفاقم المشكلة في ظل غياب وتكاسل إقليمي وأوروبي تجاه مساعدة ليبيا على مراقبة الحدود ومساعدة المهاجرين والمهجرين، ومعالجة بعض مسببات الهجرة في الأصل.
في ظل هذا الوضع والتشظي السياسي سيصبح من الصعب على السلطات الصحية الليبية السيطرة بشكل يجعل المواطنين الليبيين في مأمن من أي انتشار لأمراض سارية، بسبب التعثر في معالجة ملف الهجرة، لينتهي بنا المطاف بِصَبّ اللعنات على مهاجرين جياع استُغلت ظروفهم، واستُخدم بعضهم في حروب بالوكالة.