بقلم: د. جبريل العبيدي
قديماً قالوا «كمن يؤذن في مالطا» - ولو أن هذا القول لا يصمد اليوم - في تعبير عمَّن يتكلَّم بشكل غير مُجدٍ، فلا أحد يسمعه ولا أحد يلبّي الطلب، وهو تماماً ينطبق على ما نُشر عن اجتماعات سرية ومخططات لتقسيم ليبيا، كما نقل عن صحيفة «لافينيري» المقربة من الفاتيكان.
الحديث عن وهم تقسيم ليبيا يعتبر ضمن المحاولات الخبيثة المتكررة لتمزيق جغرافيا ليبيا، وإن كانت كل مرة بمؤذن ومكان مختلف. فمالطا صاحبة الدور المتأخر أو السلبي في ليبيا، ليس بجديد منذ زمن فرسان القديس يوحنا ودليلهم وخبيرهم المالطي جوليانو بيلا لاحتلال طرابلس، إلى اليوم وسيناريوهات الاستفزاز لليبيا بقواعد واستضافة بارجات وصواريخ الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ريغان، إلى المشاركة في ضربات حلف الناتو لإسقاط الدولة الليبية في 2011 وليس فقط إسقاط نظام القذافي، ما زالت قائمة. فالدور السلبي المالطي ليس آخره محاولة الابتزاز لأوروبا والتهديد بالانسحاب من عملية السلام «إيريني» لمراقبة تدفق السلاح للميليشيات في طرابلس ومصراتة، كما ذكرت صحيفة «تايمز أوف مالطا»، وكان الاتحاد الأوروبي قد أعلن في 31 مارس (آذار) عن إطلاق العملية التي تعني باللغة اليونانية «السلام».
وقد سبق لمدير دائرة التحقيقات في مكتب المدعي العام الليبي، أن طالب السلطات المالطية رسمياً بالمزيد من التعاون لإيقاف «تهريب مافيا مالطية للنفط الليبي»، وأضاف: «ترسل مافيا مالطية وإيطالية ناقلات نفط يومياً، لتسلم النفط المُهرّب من ليبيا».
وعن مؤذن مالطا الحالي فقد سبق أن سربت صحيفة «الغارديان» مشروعاً شريراً للمدعو سباستيان غوركا لتقسيم ليبيا إلى 3 دول، «الغارديان» ذكرت فيه أن غوركا يسعى للحصول على منصب مبعوث خاص إلى ليبيا، في محاولة لتطبيق الخطة المقترحة بتقسيم البلاد إلى 3 دويلات صغيرة. وتعتمد خطة غوركا للتقسيم على خريطة الولايات العثمانية القديمة؛ الأمر الذي لا يمكن قراءته بمعزل عن التوقيت والمصدر ورؤية مالك أسهم صحيفة «الغارديان» التي هي قطر، والتي استخدمت الحرب الديموغرافية «demographic war» من خلال إذكاء الاحتراب والتخندق الإثني، من خلال تصدير الفوضى وضخ الأموال والسلاح لتغذية الصراع المفتعل في ليبيا.
فتقرير صحيفة «الغارديان» عن مشروع اليميني المتطرف الخبيث سباستيان غوركا صاحب مقولة «الإسلام سرطان خبيث»، كان مجرد بالون اختبار بفزاعة تقسيم ليبيا إلى 3 دول متناحرة على بعد 300 كلم من الحدود الجنوبية لأوروبا.
طبعاً عوامل التقسيم ومقوماته غير متوفرة في ليبيا إطلاقاً، لكنها أحلام فاجر، وآمال لا تتحقق إلا في الحلم حتى ولو اجتمع أهل الأرض جميعاً على أن يقسموا ليبيا، فإن أهلها لن يفعلوا ذلك أبداً. ولهذا يعتبر أي مخطط لتقسيم ليبيا مشروعاً فاشلاً وغير ناضج؛ لفقدانه مقومات أو أي عوامل يمكن أن تكون نواة تقسيم، حتى الحرب والفوضى القائمة لسنوات في ليبيا لا يمكن الركون إليها كذريعة لتقسيم ليبيا، لكونها ليست حرباً أهلية بين القبائل والسكان المحليين بسبب عرقي أو طبقي، بل هي حرب على جماعات تعتنق الفكر التكفيري ولا تؤمن بجغرافيا وطنية لليبيا، ولا تؤمن بجيش منخرط فيه أبناء جميع القبائل والمدن، بل تؤمن بجيش إخواني أممي عابر للحدود.
جميع مؤذني مالطا القدماء والجدد كانوا مجرد أصوات نشاز تحاول إعادة صياغة لمشروع قديم هو مشروع «بيفن سفورزا» مشروع الوصاية، الذي قدمه وزير خارجية إيطاليا كارلو سفورزا بالاتفاق مع إرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا لتقسم ليبيا إلى 3 أقاليم تحت وصاية دولية، تتولى بريطانيا الوصاية على برقة، وتتولى إيطاليا بموجبها إدارة طرابلس، وتتولى فرنسا إدارة فزان.
ليبيا موجودة في التاريخ من قبل زمن هيرودوت، وموجودة كواقع جيوسياسي منذ أكثر من 100 عام، ولا يمكن تغييره أو تقسيمها إلى دويلات أو كنتونات وكأنها كعكة. فليبيا التي حاولت إيطاليا جعلها شاطئاً رابعاً لها La Quarta Sponda، وحاول موسوليني تسميتها «ليبيا الإيطالية» Libia Italiana؛ ظلَّت شامخة، فيما فشلت مشاريع موسوليني وسقطت أمام إرادة الأمة الليبية كما سماها الملك المؤسس إدريس رحمه الله. فالهوية الليبية تستمد شخصيتها أساساً من الأمة العربية والإسلامية، وتعتبر امتداداً طبيعياً لها، سواء من خلال جغرافيا المحيط، أو من خلال التاريخ الضارب جذوره في آلاف السنين، وتتمثل قوتها في النسيج الاجتماعي المتماسك، ليست هوية ضائعة أو مفقودة أو مختطفة أو حتى تائهة، ولا تعاني من التفكك، كما يتوهم هؤلاء في مشاريعهم، فانتهوا جميعهم وبقيت ليبيا دولة واحدة تلاحقها مؤامرات الطامعين منذ زمن الكاهنة البونيقية التي قالت: «إن كل من يتلكأ في النزوح إلى ليبيا الفاتنة، ولا يضع يده على نصيب من أرضها، فإنه سيعض يديه ندماً لا محالة». وها هو إردوغان يكرر ما فعله الغابرون وسيكون مصيره كالغابرين.