بقلم - حازم الامين
مع قدر من التغاضي عن الفروق، تصلح قصة الفنان زياد عيتاني لأن تكون موازياً لبنانياً لقصة الضابط الفرنسي ألفريد دريفوس الذي اتهم في نهايات القرن التاسع عشر بإرسال ملفات سرية إلى ألمانيا، وإلى أن حكم القضاء ببراءته كان المجتمع الفرنسي عرضة لانقسام حاد حول قضيته، وتوج هذا الانقسام بالمقال الشهير للكاتب أميل زولا: «إني أتّهم».
وليس مرد الشبه بين القضيتين هو براءة كلا الرجلين، بل ما كشفته السجالات حولهما من دلالات، ففي فرنسا كانت اللاسامية تكشف مرة جديدة عن وجهها عبر المسارعة إلى اتهام الضابط اليهودي البريء بقضية عاد القضاء وبرأه منها، وفي لبنان لـ «مقاومة التطبيع» قوة قادرة على دفع عدم الراغبين في المقاومة إلى السجون، وما أكثر هؤلاء، لكن ما أضعفهم أيضاً، فهم سريعاً ما يهبون إلى الانضمام إلى جوقات «المقاومة»، وكل ما لديهم لقوله في وجهها: «نحن المقاومة الأصلية»، وفي أحسن الأحوال تلوح عبارة: «لقد قاتلنا إسرائيل قبل أن يقاتلها حزب الله». «حزب الله» خلف لدى خصومه خوفاً يشبه خوف الأقليات اليهودية في المجتمعات الأوروبية في بدايات القرن الفائت. تقية تكشف عن نفسها عبر تبني خطاب مضطهدها. زياد عيتاني عميل إسرائيلي! إذاً لا حصانة تحمي الرجل. التحقيقات التي سُربت فور القبض عليه مذهلة لجهة عدم واقعيتها، وهذا لم يحصن الرجل ولم يستدرج شكوكاً تُذكر بقضيته! فانضم معظمنا إلى جوقة مُديني تورطه، ورحنا نُفسر اتصالاته بنا بصفتها محاولات «مد خطوط تطبيعية معنا».
في أنفسنا ووجداناتنا ثمة ما هو أقدر من قناعتنا. قوة قد لا توازي في تعقيدها اللاسامية التي كانت وراء ميل الفرنسيين إلى تخوين ضابط يهودي، لكنها تشبهها في بعض أوجهها. «مقاومة التطبيع» والخوف من «شبهة التطبيع»، سقط معظمنا فيها، واخترنا زياد عيتاني كبش فدائها. واليوم تجرى محاولة لقصر التخلي عن زياد على عدد من أصدقائه، والحقيقة أن شرائح واسعة منا صمتت، على الأقل، على ظلم وقع تحت أعينها، وهي تدرك تنافس الأجهزة على صيد تتوّج فيه نجاحات كاذبة. وما نقله محامي زياد عنه لجهة أنه يتعرض لأنواع من «التعذيب المذلّ» لسحب اعترافات واهية جاء الذهول منه بعد إعلان البراءة وليس قبلها.
الظلم الذي أصاب عيتاني مذهل، لجهة وضوحه ولجهة عدد المشتركين في إيقاعه على كرامة الرجل وعلى حريته، وهو قد يوازي ما يمكن أن يقع على شعب بأكمله. بل إن المفارقة هنا هي أنه بدل أن يكون ثمة ظالم مستبد و «شعب مظلوم»، نحن في حالة عيتاني أمام مظلومٍ واحد وأمام شعبٍ ظالم. وهنا يكمن الشبه بين قضيتي دريفوس وعيتاني.
وإذا ما وُجد من يكتب «إني أتّهم» لبنانياً فإن الأبرياء في حالة عيتاني قليلون، ذاك أن السوشال ميديا تحولت في حينه إلى جدار تبرؤ من الرجل، وإلى سجالات حول حقه في أن يورد أسماء من أوردهم التحقيق المزور الذي سُرب للإعلام، وقليلون من تناولوا ركاكة التحقيق وكاريكاتوريته في ضوء «المهمة التي أوكلها الموساد له»، وهي دفع المثقفين للتطبيع مع إسرائيل!
قبل إعلان وزير الداخلية اللبناني نهاد المشنوق براءة عيتاني بنحو شهر، كتب الصحافي اللبناني فداء عيتاني القصة الكاملة لبراءة الفنان، وحوت معظم العناصر التي تكشفت اليوم. وفي حينه استُقبلت القصة بحذر، ذاك أن التهمة أقوى من أن تضعفها حقيقة حصل عليها صحافي، وأثبتت الأيام صحتها. ناهيك عن أن الوزير نفسه لم يجد غير عروبة زياد و «لاتطبيعيته» عنواناً لبراءته.
لا أبرياء في قضية عيتاني سوى الرجل المُدان، ومثلما لم تتعظ أوروبا من قضية بريئها في بدايات القرن الفائت فكررت الجريمة على نحو أبشع في منتصفه، لن تكون قصة عيتاني سوى محطة نتجاوزها فور عودة بريئنا إلى بيته، وسنستأنف بعدها جرائم أفظع.
نقلا عن الحياة اللندنيه