بقلم - عمرو هاشم ربيع
ناقشنا فى الأسبوع الماضى مسألة التنبؤ والتوقع فى العلوم الاجتماعية، وأشرنا إلى أن العلوم الطبيعية هى الأكثر فى عمليات التنبؤ، بل إن صفة العلم ينفيها البعض عن الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، على اعتبار أن العلم قاصر على كل ما يمكن توقع سلوكه ورد فعله. بناء على ذلك، ناقشنا بعض العلاقات المتصلة بوجود رابط إيجابى بين الثقافة وبين الإلحاد، ورابط عكسى بين التمسك بقيم الإصالة وبين ارتفاع معدلات الثراء، كما ذكرنا بوجود علاقة طردية بين التواضع والفقر.
هنا نكمل بوجود علاقة تبدو طردية بين المغالاة فى استخدام وسائل التواصل الاجتماعى بين الشباب وتطبيقات الهواتف النقالة من ناحية وبين مظاهر التفكك الأسرى والعائلى من ناحية أخرى. وتلك العلاقة سبق وإن أشرنا إليها عدة مرات، وهى تتحدث عن أن من يميلون إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعى فى معاملاتهم مع الغير، خاصة بين الشباب، يتجهون عادة إلى أن يكونوا من المعرضين إلى التفكك الأسرى، أو أن التفكك الأسرى يحدث بسببهم نتيجة ذلك الاستخدام. بعبارة أخرى، هناك رابط بين من يغالون فى استخدام الفيس بوك والتويتر وتطبيقات الهواتف من الأجيال الأحدث كالتسجيلات بغرض التنصت والتصوير بغرض الافتضاح وخلق الفوتوشوب وغيرها من أمور تتعلق بالتدليس والغش من ناحية وبين كون أسر هؤلاء وعائلاتهم والمتعاملين معهم غير مترابطين اجتماعيا من ناحية أخرى، فهم لا يتحدثون مع بعضهم كثيرا، ولا يميلون إلى إغاثة بعضهم البعض، ولا يأكلون مع بعضهم، ولا يتقابلون إلا نادرا، ولا يشاركون ذويهم فى أطراحهم وأفراحهم إلا بشكل افتراضى.
علاقة أخرى تتعلق بثقافة الملبس أو الستر من ناحية وبين الطبقة الاجتماعية. هنا يربط الكثيرون ويربط الواقع فى الشارع بين ارتداء النساء للملابس التى يصنفها البعض بالفاضحة والكاشفة أحيانا للعورات، وبين الارتباط بطبقات اجتماعية تتسم بالثراء. هنا تتدخل عوامل كثيرة فى تلك العلاقة، وهى عوامل تتصل بالنشأة والتعليم والتربية السوية وربما التدين من ناحية وبين ارتداء الملابس اللائقة دون أن تكون بالضرورة تعنى الحجاب الشرعى.
علاقة ثالثة تربط بين السن وبين طبيعة الحلول التى يلجأ إليها الناس فى التعامل بين ذواتهم أو بين مجتمعهم الأوسع أو حتى فى علاقتهم بنظامهم السياسى. هنا يبدو أن سن الشباب يميل إلى التغيير والحلول الثورية والجذرية، بينما كبار السن يميلون بشكل أكبر للإصلاح أو للحلول الوسط أو التفاوض بغية الوصول إلى معادلات لا غالب فيها ولا مغلوب. بعبارة أخرى، يميل الشباب إلى العدل والحقوق والقصاص، بينما يميل من هم فى سن متأخرة إلى الإنصاف وعدم تقطيع الأواصر مع الماضى والاكتفاء باعتراف الآخرين بالذنب، وربما قبول الديات والتعويضات عن الخسائر بدلا من الثأر أو المحاكمات الاستثنائية. هنا يلحظ المرء بوضوح الفوارق التى مر بها رفاق الدرب فى تعاملهم مع النخب السياسية والنظام السياسية التى عاصروها، ومنها التغيرات التى وقعت إبان أحداث 17و18 يناير 1977. إذ تبين أن من كان يقود حملة التغيير خلال هذه الوقت، أصبح يرضى إبان التعامل مع نظام مبارك فى نهاية حكمه بالتمهل فى التعامل مع تسلطية هذا النظام. فهو يبغى مجرد إصلاح الأوضاع والبعد عن التغيرات الدرامية. وبالمقابل كان موقف جيل الشباب إبان أحداث 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 غير موقفهم اليوم بعد عقد ونيف من التطور فى العمر وخبرة الحياة، إذ أصبح هؤلاء أكثر ميلا للوسطية.
ضمن العلاقات الأخرى المهمة الربط الطردى بين التقدم التكنولوجى وأمراض العصر العضوية وعلى رأسها السمنة، فى هذا الحالة يلاحظ أنه كلما وفرت التكنولوجيا وسائل للراحة والوقاية من بذل المجهود العضلى، كلما كان ذلك مؤثرا على صحة الإنسان بالسلب. فاختراع الريموت أدى لضعف الحركة، واختراع ماكينات الأكل السريعة أو ما يسمى الفاستفوود، والتطورات التى طرأت على عمليات الطبخ بالزيوت المصنعة والمهدرجة والموفرة للمال، علاوة على صناعة المشروبات الغازية وصناعة اللحوم وبعض الأجبان واللنشون ومكسبات الطعم واللون غير الطبيعية، علاوة على المواد الحافظة المضافة للمعلبات بكافة أنواعها، والمبالغة فى تناول السكريات المصنعة، كلها أمور ساهمت فى انتشار السمنة، وما صاحبها من أمراض الضغط وجلطات القلب والمخ والسكرى وضعف الكلى ووهن الكبد وضعف المناعة والسرطان.
هكذا يتبين أن هناك علاقات عكسية وطردية كثيرة، وأن تلك العلاقات لا تبدو حاسمة فى الكثير من الأحيان، فلكل قاعدة شواذ، وكل تلك الأمور يحكمها الميل والحديث عن الاحتمالية والغالبية والأرجحية فى حدوث المتغير التابع... وهكذا هى العلوم الاجتماعية والإنسانية.