بقلم : وفاء بكري
في شهر مارس من كل عام، اختلف عن النسبة الغالبة من جموع الناس، في الاحتفال بـ«عيد الأم»، لدى «حاجز نفسى» بينى وبينه بالرغم من أننى أعشق قراءة القصص الإنسانية لتفانى الأمهات، وسماع أغانى ذلك اليوم من ست الحبايب إلى صباح الخير يا مولاتى، حتى الأغنية الشعبية «عينى ع الأم وحنان الأم»، فكل شخص حر تماما في التعبير عن حبه لوالدته بما يناسبه حتى ولو بكلمات بسيطة للغاية، هذا الحاجز النفسى جاء نتيجة أحداث ومواقف شخصية مررت بها، جعلتنى أرفض «مهرجانات» الاحتفال التي تسيطر على كل مكان في مصر، فقد وجدت دموع «متحجرة» في عيون أصدقاء ترفض الانطلاق أمامنا حتى لا تفسد الاحتفالات، وأخرى «انسابت» رغما عنها، وهى تتذكر «لمسة يد» حانية وأحضان دافئة فقدتها، كنت اتعمد عدم الحديث عن الهدية التي سأحضرها لأمى في هذا اليوم، وكنت ولازلت مقتنعة أن الاحتفال بالأم وعطائها المستمر، لن يكفيه الـ 365 يوم، أو جميع كلمات الشعراء ومفرداتهم الرقيقة، منذ دخولى المدرسة وحتى سنوات عملى، حرصت على معرفة أمهات أصدقائى، وأكون في قمة سعادتى وإحداهن تطلق دعواتها لى، تعاملت مع الكثيرات، منهن الحنونة الرقيقة بدرجة تفوق الوصف، التي كما نقول «تخاف على أولادها من الهوا الطاير»، ومنهن خفيفة الظل المنطلقة، والطيبة الساذجة التي لا تمانع من الجلوس تحت أقدام أبنائها، والذكية التي ترسم مستقبل أولادها بكل دقة، وتختار أصدقاءهم بنفسها، والقاسية التي ينفر منها أبناؤها، تعاملت مع الكثيرات، وظلت أمى «الست نعيمة» – ربنا يخليها لينا يارب ويطول عمرها- هي «الحب كله»، تلك السيدة الصعيدية التي حضرت إلى القاهرة في سن الـ 16 عاما، وقد تزوجت في بلدها «قنا» قبل عامين، ولم تنجب لأنها قررت ألا تتحمل مسؤولية «إنجاب أطفال» وهى لازالت «طفلة» أيضا، كما قررت بـ«ذكائها الفطرى» أن تقوم بذلك «خارج المكان» الذي تحكمه «عادات وتقاليد» تبخس حق المرأة في كثير من الأمور، فهى لا تريد إنجاب «بنات» في «الصعيد الجوانى»، كانت منجذبة لـ «المدنية»، خاصة وأن والدها الطيب و«جدى الجميل» كان يحثها دائما على عدم الاستقرار في «الصعيد»، لأنه يريد لها «حياة مختلفة»، فكانت زوجة لأبى – أطال الله في عمره- الذي كان يعمل آنذاك في «مديرية التحرير» ثم انتقل إلى القاهرة، لتنطلق معه «والدتى»، والغريب أنها انجبت 3 بنات خلال فترة قليلة، أكرمها الله بأن تفقد أكبرهن في عمر السادسة لتكون لها في الجنة، وإن كانت لها ابنة ثانية في الجنة أيضا ان شاء الله، أختى زينب- شهيدة المرض – والتي فقدناها جميعا منذ 8 سنوات، وكان عمرها 45 عاما، وكانت ولازالت أمى «صابرة»، «وعى أمى» وقف عند انجاب ذكرين، وحمدت الله على 4 أبناء تريد تربيتهم وتعليمهم بشكل صحيح، ولأن «وسائل منع الحمل» في السبعينيات من القرن الماضى، لم تكن ذات مفعول مستمر، فقد حملت والدتى مجددا بعد 5 سنوات من التوقف، لأحضر أنا، ثم بعد 8 سنوات وللسبب نفسه جاء «آخر عناقيد» العائلة، «بنتين كمان»، هل كانت والدتى عند إصرارها على «الخروج من الصعيد»، «تقرأ الطالع» بأنها ستنجب 6 بنات، تفقد إحداهن، ويستمر معها 5 بنات أخريات؟ كانت ولازالت «الست نعيمة» نعم الأم، لم تتحكم في أفكارنا أو توجهاتنا أو اختيار كلياتنا، بل لم تفعل ما نقوم به مع أبنائنا عند فقد درجات قليلة في الامتحان، وكانت تحفزنا أكثر، كانت ملتزمة بمتابعتنا في الدراسة، وعدم تجاوزنا «حدود الاحترام والأصول»، لم تكن مثل الكثير من الزوجات، اللاتى يرفضن عودة أزواجهن إذا سافروا للعمل بالخارج، بحجة «تأمين مستقبل الأبناء»، فعندما أرسل إليها أبى يأخذ رأيها في العودة من الخليج بعد سنوات قليلة من سفره لأنه غير سعيد، كانت حاسمة :«انزل لولادك والشغل موجود»، لم تلتفت إلى انتقاد معظم معارفها وأقاربها بسبب مخالفتها لـ«عادات سيدات الصعيد» وقررت تشجيع كرة القدم، واختارت «الأهلى» ليكون فريقها المفضل، كان يوم الجمعة «مقدسا» لديها لا يصلح معه الجلوس في البيت، تنزهنا في كل حدائق القاهرة تقريبا، تخرج للتسوق وتعود بـ«شرائط الكاسيت» الجديدة، بجانب المطربين الكبار، لم تتجاهل أمي مناسبة واحدة سواء عائلية أو عامة، إلا واحتفلت بها معنا وتقول لنا :«افرحوا»، واليوم كما كانت مسؤولة عنا أصبحت مكبلة بمسؤولية جيل ثان من أبنائنا، وبالرغم من أننى لا أحب الاحتفال بعيد الأم كما قلت، إلا أن أمى أخذت شهر مارس «مقاولة»، فعيد ميلادها في 22 مارس، وعيد زواجها 23 مارس، فلا مفر من الاحتفال، وكما قالت ليلى نظمى: «أمّا نعيمة» كل سنة وانت الحياة.. ومليون نعم مش نعمين.