بقلم : د. حسن أبوطالب
لا أحد منصفاً يدعو إلى الحرب لمجرد الحرب، ولا أحد عاقلاً يوافق على أن تخرج قطعة من أرض الوطن من سيطرة الحكومة الشرعية بزعم أن المسلحين والإرهابيين الذين يسيطرون عليها هم ثوار يرفعون رايات الحق، ولا أحد يراعى الحقوق الإنسانية يدعو إلى قتل آلاف من المدنيين العزل لمجرد أنهم وقعوا غصباً عنهم تحت سيطرة جماعات خارجة عن القانون. هذه المبادئ وغيرها، التى تبدو منطقية جداً وتتوافق مع منطق وقانون الدولة القومية وحماية الشعوب من البطش والظلم، تختفى جزئياً إذا نظرنا إلى نتائج قمة سوتشى بشأن إدلب شمال غرب سوريا.
أهم ما توصّل إليه الرئيسان الروسى بوتين والتركى أردوغان فى قمة سوتشى قبل يومين يتثمل فى إقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 إلى 20كم تفصل بين الجيش السورى، ومن يسمّون بجماعات المعارضة السورية بحد أقصى منتصف شهر أكتوبر المقبل، على أن تخلو المنطقة المتفق عليها من وجود مسلحى النصرة والفصائل الأخرى التى تشترك معها فى هيئة تحرير الشام المعلنة منذ 2017، وأن يتم نزع سلاح هؤلاء الثقيل، وبنيتهم الأساسية، وأن يتم توجيه هؤلاء إلى جيب فى أقصى شمال إدلب على الحدود مع تركيا. مهمة نزع السلاح ستكون من مسئوليات الجيش التركى، أما مهمة الحفاظ على هدوء المنطقة منزوعة السلاح، فستكون مشتركة بين الشرطة العسكرية الروسية والجيش التركى. كما لن تكون هناك عملية عسكرية فى الوقت الراهن على الأقل.
نتائج القمة على هذا النحو تكشف قدراً هائلاً من البراجماتية لكل من «بوتين وأردوغان»، كل منهما يستطيع أن يدّعى تحقيق نقلة نوعية بشأن مستقبل إدلب، ومجمل العملية السياسية، سواء المرتبطة باتفاقات الأستانة، أو ما يجرى تحت مظلة الأمم المتحدة، والمعروفة بعملية جنيف. وكل منهما يستطيع أن ينظر إلى تلك النتائج بقدر من الإيجابية، لكنها لا تخلو من منغصات كبرى تتطلب يقظة ومتابعة واستمرار الاتصالات، ووضع ضوابط لمنع انفلات الأمور. فمن جانب تم تأجيل العملية العسكرية لتحرير إدلب من المسلحين والإرهابيين، وهو ما يمثل انتصاراً كبيراً للرئيس أردوغان الذى أكد هذا المطلب فى القمة الثلاثية فى طهران مع كل من «بوتين وروحانى» قبل أسبوعين، متسلحاً بأن أى عملية عسكرية سوف يترتب عليها تدفّق مهاجرين على بلاده التى تتحمّل الكثير من أعباء هؤلاء منذ عدة سنوات مضت، لكنه فى الآن نفسه بات يتحمّل مسئولية كبرى فى ما يتعلق بما وصفه هو من قبل بتفكيك «هيئة تحرير الشام»، التى تُعد لدى روسيا وإيران وسوريا منظمة إرهابية بامتياز، كما أن أهم مكوناتها هى جبهة النصرة والمصنّفة إرهابية دولياً، نظراً لأنها امتداد لتنظيم القاعدة.
العبء الذى تحملته أنقرة ليس بسيطاً، فهناك ما يقرب من 25 إلى 30 ألف مسلح، لديهم العديد من الأسلحة الثقيلة من مصادر تركية وأمريكية وبعض الآليات روسية الصنع التى تم السطو عليها فى نهاية 2015، حين انسحبت قوات الجيش السورى من إدلب وتركت وراءها الكثير من الأسلحة والذخائر. وإضافة إلى النصرة، هناك مجموعات وتنظيمات سلفية متحالفة معها، أبرزها جيش السّنة، وحركة نور الدين زنكى، ولواء الحق، وجبهة أنصار الدين، وغالبيتهم من الأوزبك والطاجيك والشيشان والإيغور وجنسيات عربية متنوعة. وهم الذين يُطلق عليهم الجهاديون العولميون، ويسيطرون بالفعل على أجزاء من إدلب، وأقاموا فيها مجتمعات خاصة بهم، منذ أن سيطروا على إدلب صيف 2015، ويقدّر عدد هؤلاء ما بين 5 إلى 9 آلاف مسلح عولمى تدفعهم اعتبارات أيديولوجية وأخرى تتعلق بسوء الوضع فى بلدانهم، فما الدولة أو الدول التى تقبل أن تستقبل هؤلاء المسلحين المدربين، وهم أقرب إلى القنابل الموقوتة؟!.
سيكون على أنقرة أن تجمع هؤلاء فى جيب محدود فى أقصى شمال إدلب، فهل سيقبل هؤلاء التعاون السلس مع الجيش التركى أم سيقاومون. والسؤال الذى ما زال بلا إجابة: ما الذى سيتم فعله مع هؤلاء بعد محاصرتهم فى هذا الجيب؟ هل بالفعل ستقوم أنقرة بحمايتهم، أم إعادة من يريد إلى بلده؟ وهل يُعقل أن يقبل الإيغوريون مثلاً بالعودة إلى مقاطعة سينكاينج الصينية، التى يعتبرها الإيغوريون تركستان الشرقية المحتلة، وهى التى تشهد الآن عملية صينية كبرى لجمع الإيغوريين فى معسكرات بغرض معلن، وهو إعادة تأهليهم ودمجهم فى الحياة الصينية وإخضاعهم لفكر وسيطرة الحزب الشيوعى الصينى. وهل يُعقل أن يتوجّه المسلحون الشيشان إلى بلدهم. أسئلة كبرى بلا إجابات، والمرجّح أن يتمسّك بعض هؤلاء بالبقاء حيث هم، أو أن يتوجهوا إلى تركيا ذاتها، وهى التى سمحت لهم بالتوجه إلى الأراضى السورية لمحاربة النظام السورى وإسقاطه.
ربما تعمل أنقرة على دمج بعضهم فى «الجبهة الوطنية للتحرير» التى أنشأتها مؤخراً، وقوامها ما يُعرف بالجيش السورى الحر، بهدف تجميع المعارضين المسلحين السوريين ليكونوا جيشاً عميلاً لتركيا فى الأراضى السورية، كما كان جيش لحد عميلاً لدولة الاحتلال الإسرائيلى أثناء احتلال جنوب لبنان بعد عام 1988، وحتى عام 2002. مثل هذه الأسئلة الشائكة وغيرها ستجد إجاباتها النهائية فى غضون شهر من الآن، وهى المهلة التى مُنحت لتركيا من قبل روسيا. وما يلفت النظر هنا أن الرئيس أردوغان أكد أن أولوية بلاده هى محاربة قوات حماية الشعب الكردية، وليس هؤلاء المتطرفين والإرهابيين، مما يعنى أنه يأمن للإرهابيين، نظراً للعلاقة التاريخية التى تجمع بينه وبينهم.
الرئيس بوتين من جانبه حصل على بعض الانتصارات السياسية، فمن ناحية تجنّب خوض معركة كبرى فى مواجهة عدد كبير من المسلحين المدربين، كما تجنّب مسئولية إحداث معاناة إنسانية لأعداد كبيرة من المدنيين، والأهم أن هؤلاء الإرهابيين سوف يبتعدون عن القاعدة العسكرية الروسية فى حميميم، التى تعرّضت مؤخراً لهجمات صاروخية وأخرى بواسطة الطائرات المُسيرة آلياً. وعسكرياً أيضاً فإن مجرد تجميع مسلحى الجماعات الإرهابية فى جيب معزول أقصى شمال إدلب وتحت رقابة تركية، فإن حدثت أسباب تدفع لعمل عسكرى، فسيكون من السهل توجيه ضربات جوية روسية نوعية لهم فى أماكن تجمعهم المعزولة.
المرجّح أن يكون الموقف السورى الرسمى متماشياً مع بنود هذا التفاهم الروسى - التركى، ولو على مضض، ولعل نقطة الاستفادة الوحيدة فى المدى الزمنى المنظور تتعلق بسحب الأسلحة الثقيلة من المنظمات الإرهابية، أما المسلحون المدعومون من أنقرة فلهم وقت آخر للمحاسبة.
نقلًا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع