توقيت القاهرة المحلي 22:47:21 آخر تحديث
  مصر اليوم -

إسرائيل وسقوط «المفهوم» مرة أخرى

  مصر اليوم -

إسرائيل وسقوط «المفهوم» مرة أخرى

بقلم - حسن أبوطالب

في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 سيذكر التاريخ أن حدثاً مفاجئاً، لم يتصوره أحد من قبل، قد غيّر العديد من المفاهيم والمعادلات، وسيغير الكثير من الأحداث اللاحقة. حينها تم تداول مقولة خرجت من واشنطن، أن هناك من حذَّر إسرائيل من عمل عسكري تُعد له حركة «حماس» تحديداً. لم يثبت مثل هذا التحذير، لكن دلالته تظل باقية، إذ ثمة خطأ كبير في الأداء العسكري والاستخباراتي، بالرغم من الإمكانات الضخمة في وسائل جمع المعلومات المتوفرة لدى إسرائيل، سواء من مصادر بشرية أو إلكترونية حديثة لا تتوفر لخصومها في غزة أو في الضفة المحتلة. بعد يومين خرج أحد مسؤولي الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية قائلاً، كانت هناك تلميحات بأن شيئاً ما قد يحدث، ولكننا لم «نفهم» ما هو المقصود.

لم «نفهم» هي بيت القصيد، وليست المعلومات وهي غزيرة جداً، وبعضها واضح تماماً وضوح الشمس. المسألة إذن ترتبط أساساً «بالمفهوم»، أي الاستيعاب والإدراك، وفي القضايا ذات الأهمية يصبح الخيال والابتكار والخروج من المفاهيم المُعلبة، بمثابة المعيار الأهم في استقراء ما تقوله هذه المعلومات. من المهم ملاحظة أن «الفهم» البشري مرتبط أساساً بالتكوين العقلي والفكري وعمليات التغذية المفهومية والنظرية والقيمية معاً.

إذا عدنا إلى الوراء قليلاً، قبل خمسين عاماً حين اندفع الجنود المصريون والسوريون في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1973 لمواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي بصورة مفاجئة لم يتخيلها المحللون في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية معاً، ثار السؤال الرئيسي لماذا حدث ما حدث؟ وحين شُكلت لجنة خاصة لتحديد السبب في الهزيمة التي لحقت بالجيش الإسرائيلي، المعروفة بلجنة أجرانات، نسبة إلى رئيسها القاضي شيمون أجرانات (رئيس المحكمة العليا في إسرائيل آنذاك)، ومُنحت صلاحية استجواب الشهود والحصول على كل الوثائق ذات الصلة، وبعد الاستماع إلى شهادات 90 من القيادات العسكرية والاستخباراتية، والاطلاع على كم هائل من الوثائق، حددت اللجنة مهمتها في «لماذا فشل جيش الدفاع الإسرائيلي في الحرب من الناحية الاستراتيجية، كما فشل في توقع الهجوم العربي؟ وهل كان الخطأ في المعلومات أم في إدراك تلك المعلومات؟».

أصدرت اللجنة ثلاثة تقارير، صدرت تباعاً، منها الموجز، ومنها الموسع، والنهائي الصادر في يناير (كانون الثاني) 1975، الذي سُمح بنشر أجزاء منه بعد عشرين عاماً. وقد حدد النهائي أربعة أسباب رئيسية لما وصفه التقرير «بالفشل العسكري الاستراتيجي في حرب 1973»، أولها فشل أجهزة المخابرات العسكرية في التحليل السياسي لما توفر لديها من معلومات؛ فالمشكلة لم تكن نقص المعلومات، وإنما تحليل هذه المعلومات. وثانيها التصاق المخابرات الحربية الإسرائيلية بما عرف باسم «المفهوم»، الذي ترسخ بعد حرب 1967، الذي يقضي بأن الدول العربية لا يمكنها الدخول في مواجهة عسكرية من دون شرطين؛ إن سوريا لن تهاجم من دون مصر، والأخيرة لن تهاجم من دون تفوق جوي. والثالث عجز القوات الإسرائيلية في سيناء عن منع القوات المصرية من عبور قناة السويس، أو التصدي لهم، ورابعاً التأخر في تعبئة قوات الاحتياط، الأمر الذي أدى إلى زيادة الخسائر الإسرائيلية في الأيام الأولى للقتال، وأخّر القيام بالهجوم المضاد.

تضمن التقرير النهائي شرحاً مستفيضاً لمعنى «المفهوم»، الذي ارتكنت إليه أجهزة الاستخبارات في تحليل الكم الهائل من المعلومات التي وردت إليها، وشملت شرحاً تفصيلياً لما يجري على الجبهتين المصرية والسورية، من حيث كثافة القوات وأعداد المدافع ومرابض الطائرات، وعمليات استقدام القوات من أماكن بعيدة إلى الجبهتين، ومع ذلك انتهت كل التقديرات إلى أن فرصة مصر وسوريا للقيام بهجوم شبه معدومة، نظراً لعدم امتلاكهما الإرادة والتسليح الكافي، ولكونهما بلدين يعيشان الهزيمة منذ 1967، وتتردد قياداتهما في مواجهة إسرائيل خوفاً من هزيمة أخرى.

هذا «المفهوم»، أي الإدراك المسبق الذي تعزز مع الشعور بالعنجهية والقوة المفرطة مقابل ضعف الطرف الآخر وعدم امتلاكه أدوات تغيير واقعه، كان السبب الرئيسي في فشل تقدير مغزى ودلالة المعلومات كافة، التي توفرت وكانت تشي بأمر مختلف تماماً.

يمكن أن نشير أيضاً إلى خطة الخداع الاستراتيجي الناجحة التي باتت معروفة، وطبقتها مصر وسوريا للتعمية على المحللين في الاستخبارات العسكرية وغيرها، وتشتيت أفكارهم وتعزيز «الفهم المغلوط» والمسبق لديهم، وبما أثر على قدراتهم الذهنية في التوصل إلى حقيقة ما يجري على الأرض بالفعل، ومن ثم حدثت المفاجأة الكبرى غير المتخيلة من قبل.

أكاد أزعم أن لجنة أخرى، أياً كانت نتائج القصف والتدمير والقتل الذي ما زال يُمارس بعنجهية شديدة ضد أبرياء عزل في طول القطاع وعرضه، منتهكاً كل قوانين الحرب، سوف يتم تشكيلها لبحث «المفاجأة» الاستراتيجية الكبرى التي حققتها الفصائل الفلسطينية، وسوف تقضي بإقصاء العديد من القادة السياسيين والعسكريين باعتبارهم ناقصي الكفاءة والأهلية لإدارة شؤون أمن البلاد، تماماً كما حدث مع غولدا مائير وقادة عسكريين كثر تم استبعادهم من مناصبهم بتوصية من لجنة أجرانات. وسوف تعيد اللجنة المحتملة التذكير بأن قصور الفهم هو الأساس في الفشل، وليس المعلومات الموسعة التي توفرت لدى الأجهزة الإسرائيلية. قصور الفهم المعني في الحالة الجديدة بعد خمسة عقود من الحالة السابقة، يتعلق أساساً بالارتكان إلى قناعة مزيفة بأن الشعب الفلسطيني ليس لديه أي قدرة أو إمكانية لتحدي العنجهية العسكرية والسياسية الإسرائيلية، التي ترسخت في عقول ونفوس النخبة والمجتمع على نحو مَرضي، وباتت هي المعيار الوحيد الذي يُنظر من خلاله للأحداث والتحركات المُحملة بمعانٍ واضحة للمقاومة والتحدي رغم فارق الإمكانات.

أكاد أزعم أيضاً أن اللجنة المنتظرة إذا ما تسلحت بالموضوعية وقراءة معمقة للتاريخ الإنساني، لا سيما ما يتعلق بالمقاومة الأبدية لكل ما هو احتلالي يُعنى باغتصاب أراضي الغير وحاضرهم ومستقبلهم، وانتصار تلك المقاومة المحتوم، سوف تخلص إلى حقيقة تغيب دوماً عن النخب الحاكمة لقوى الاحتلال، قوامها أن المقاومة ليست فقط فعلاً مفاجئاً أو غير مفاجئ لبضع عشرات أو مئات من مسلحين، وإنما هي إيمان وقناعة راسخة لدى جموع أصحاب الأرض الأصليين، واستعدادهم المفرط لتقديم التضحيات من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، وأنه لا شيء سيحول دون انتصارهم في النهاية، وبالمقابل دحر الاحتلال والاستيطان بلا رجعة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إسرائيل وسقوط «المفهوم» مرة أخرى إسرائيل وسقوط «المفهوم» مرة أخرى



GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 15:30 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025
  مصر اليوم - ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025

GMT 11:43 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

تامر حسني يدعو لتبني طفل عبقري

GMT 14:33 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة رانيا العبدالله تستمتع بوقتها مع حفيدتها

GMT 07:55 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتقاضى 634 ألف دولار يومياً مع النصر السعودي

GMT 09:37 2024 الخميس ,10 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار السيارات الكهربائية في طريقها لتراجع كبير

GMT 01:56 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

التعليم.. والسيارة ربع النقل!

GMT 05:08 2024 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

مرشح رئاسي معتدل ينتقد سياسة الحجاب في إيران

GMT 05:33 2021 الأحد ,26 كانون الأول / ديسمبر

جالطة سراي يخطر الزمالك بتفعيل بند شراء مصطفى محمد

GMT 03:52 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تدريس الرياضيات يحسّن من مستوى الطلبة؟

GMT 23:31 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

توقيف سيدة تُدير شبكة دعارة داخل شقة سكنية في السويس

GMT 18:19 2021 السبت ,10 إبريل / نيسان

«المركزي» يعلن مواعيد عمل البنوك في رمضان 2021

GMT 12:03 2021 الأربعاء ,10 شباط / فبراير

قمة نارية بين برشلونة وإشبيلية في نصف نهائي الكأس
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon