بقلم : د. حسن أبوطالب
يبدو مكتوباً على الشرق الأوسط، خاصة جانبه الشرقى، أن يظل مصدراً لتوتر وحروب وتغيرات تفاجئ البعض بينما تثلج البعض الآخر، فطوال العام الماضى كانت التطورات الميدانية فى كل من سوريا والعراق تفيض بالإشارات الملتبسة، إلى أن حقق العراق اختراقاً نوعياً يمكن وضعه فى خانة استعادة الدولة لهيبتها، حينما هزم تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» وحرر ما يقرب من ثلث البلاد عبر معارك متتالية استمرت 15 شهراً، كما حقق اختراقاً آخر صب فى المعنى ذاته حين تمكنت القوات العراقية من استعادة السيطرة الكاملة على مدينة كركوك النفطية المتنازع عليها فى غضون أقل من عشر ساعات، بالتنسيق مع قوات البشمركة التابعة للحزب الوطنى الكردستانى، الذى كان له موقف مغاير تماماً عن موقف الحزب الديمقراطى الذى يرأسه مسعود برزانى، الذى أصر على إجراء استفتاء على انفصال الإقليم عن الدولة العراقية بصورة غير دستورية، فما كان من حكومة العبادى إلا أن سيّرت حملة عسكرية وتفاهمت مع إيران وتركيا على استعادة السيطرة الكاملة على المنافذ البرية التى تربط إقليم كردستان مع هذين البلدين، والتى كانت تحت سيطرة حكومة إقليم كردستان لسنوات طويلة.
الوضع فى الجارة سوريا يختلف جذرياً عن مضمون الحالة العراقية، ويشى فى الآن نفسه بالعديد من الإشارات المتضاربة، وإذا وضعنا مفهوم الدولة أمامنا سنجد أن الجيش السورى كممثل للدولة وحكم الرئيس الأسد حقق اختراقات كبرى ضد الجماعات المسلحة من المعارضة أو الجماعات الإرهابية كالقاعدة والنصرة وتنظيم الدولة، وبات يسيطر على ما يقرب من 70 فى المائة من الأراضى السورية بفعل التقدم الميدانى تارة، وبتأثير من الاتفاقيات التى عقدها الروس وضمنها الأكراد والإيرانيون فيما يعرف بمناطق خفض التوتر الأربع، وهى الاتفاقات التى أدت إلى خروج المسلحين بدون أسلحتهم إلى الشمال السورى لا سيما محافظة إدلب وأجزاء محدودة من ريف حلب الشمالى، ولكن تظل يد الدولة السورية مغلولة فيما بقى من أجزاء لا تسيطر عليها، كالشمال الشرقى وهو موطن الأكراد السوريين، حيث تعيث تركيا فساداً فى المنطقة بعد أن احتلت منطقتى عفرين مطلع هذا العام ومثلثاً بين مدن الباب وجرابلس وإعزاز، تم احتلاله فيما يعرف بعملية درع الفرات التى انتهت مطلع العام 2017، بل تتطلع تركيا إلى مد سيطرتها العسكرية على باقى الشمال الشرقى السورى جهة الحدود مع العراق بما فيها منبج التى يتركز فيها وجود عسكرى قوامه 2200 جندى، هدفهم المعلن حتى الآن هو منع عودة تنظيم الدولة إلى هذه المناطق مرة أخرى، أما الهدف الفعلى فهو السيطرة على الوجود الإيرانى، ولا تكتفى أمريكا بوجودها غير الشرعى على الأراضى السورية، ونشرها أكثر من عشرين موقعاً عسكرياً، بل تهدف إلى جلب قوات عربية إلى الأراضى السورية فى مهمة غير محدودة المدى ولا الأهداف، بل من شأنها تعزيز تقسيم سوريا، وخلط الأوراق الاستراتيجية.
لا تنفصل هذه التحولات الكبرى فى أهم بلدين عربيين فى المشرق العربى عن حالة الصراع الأمريكى الإسرائيلى مع إيران، وعنوانه الأبرز هو إلغاء أو تعديل الاتفاق النووى الإيرانى، ويحبس العالم أنفاسه انتظاراً للقرار الذى سوف يعلنه الرئيس ترامب يوم السبت المقبل، بالانسحاب الأمريكى من الاتفاق أو الإبقاء عليه لمدة محدودة لحين إتمام تعديله وفقاً للمطالب الأمريكية، التى ترفضها إيران، ولا تجد حماسة أوروبية اللهم إلا تأييد تعديل الاتفاق بعد مفاوضات مع طهران ولكن بعد انتهاء الاتفاق 2025، فضلاً عن الرفض الصريح لكل من روسيا والصين لإلغاء الاتفاق أو تعديله أو توقيع عقوبات أممية جديدة على إيران.
التأييد الإسرائيلى لإلغاء الاتفاق الإيرانى فوراً ومهاجمة إيران عاجلاً حسب تصريحات وأمنيات رئيس الورزاء الإسرائيلى تعطينا مؤشر خطر حول ما يمكن أن يحدث إذا ما تم الخطأ فى الحسابات من أحد الطرفين، تل أبيب أو طهران، فبينما لدى إسرائيل رغبة عارمة فى العدوان الشامل على إيران للإجهاز على قوتها العسكرية، وعلى أمل أن تكون الولايات المتحدة بقدراتها العسكرية الهائلة فى عدد من بلدان المنطقة كقطر فى قاعدة العديد، وأنجرليك فى تركيا والأسطول الأمريكى فى الخليج والمحيط الهندى، هناك محفزات قوية لدى إيران فى توجيه ضربة لإسرائيل، ولكن محدودة وغير مباشرة كنوع من الانتقام لمقتل العديد من المستشارين الإيرانيين فى قاعدة «تى فور» السورية فى ريف حمص، التى هاجمتها إسرائيل قبل ما يقرب من شهر بالصواريخ من طائرات حلقت فى الأجواء اللبنانية، وأياً كان من يبدأ بالهجوم على الآخر، فإن أى عمل عسكرى لن يكون قابلاً للسيطرة، والمرجح أن يؤدى إلى اتساع مساحة الحرب وتورط عدد أكبر من المشاركين، والمشكلة فى كل الأحوال أن الحرب ستدور فى أغلبها على الأرض اللبنانية والسورية.
ولعل نتائج الانتخابات اللبنانية التى انتهت نتائجها بفوز كبير للتحالف الذى يجمع بين حزب الله وحركة أمل الشيعيتين، والتيار الوطنى الحر بزعامة الرئيس عون، فضلاً عن فوز نواب سنة يميلون إلى الوقوف مع هذا التحالف ويؤيدون النظام فى سوريا ولهم علاقات طيبة مع إيران، يبعث برسالة إلى إسرائيل أن لبنان ما بعد الانتخابات ليس هو ما قبل الانتخابات، وأن الحكومة المقبلة ولاعتبارات تتعلق بالتوازنات الجديدة فى البرلمان اللبنانى سيُفرض عليها اختيارات أبعد ما تكون عن الرغبات الأمريكية أو التى تجعل لبنان مستمراً فى سياسة النأى بالنفس عن الشأن السورى.
انتخابات لبنان من شأنها أن تزعج إسرائيل، ورسائلها قد تحفز نتنياهو على البدء بمعركة كبرى سواء انسحب الرئيس ترامب من الاتفاق النووى الإيرانى أو استمر بشروط مؤجلة. والذرائع لدى إسرائيل كثيرة بقدر الأكاذيب الهائلة التى اعتادت عليها تجاه العرب والإيرانيين، لكن الحسابات فى هذه الحالة سوف تحتاج البحث المعمق مع الولايات المتحدة وروسيا فى الآن نفسه، والمستبعد أن توافق روسيا على تمرير الرغبة الإسرائيلية فى تفجير المنطقة وفتح الباب أمام حرب إقليمية لا حدود لها، ويمكن لروسيا أن تؤكد مثل هذا الرفض إن قامت فوراً بنشر صواريخ الدفاع الجوى المتطورة إس 300 فى سوريا، وأن تكون تحت إمرة الجيش السورى، وفعلت الأمر نفسه مع إيران، ففى هذه الحالة تتغير الكثير من المعطيات الميدانية وبما يخفف من الاندفاع الإسرائيلى نحو حرب لا حدود لها.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع