بقلم : د. حسن أبوطالب
فى الليلة التى عاد فيها «نتنياهو» من تشاد بعد أن أعلن إعادة العلاقات الدبلوماسية معها، كانت الصواريخ الإسرائيلية تستهدف مطار دمشق الدولى، حيثت أسقطت الدفاعات الجوية الروسية الصنع 30 صاروخاً وقنبلتين -حسب بيان وزارة الدفاع الروسية، بينما تأثرت البنية التحتية لمطار دمشق نتيجة القصف، كما قتل وأصيب عدة عسكريين سوريين. وعلى بعد عدة آلاف من الأميال كان قائد الدفاع الجوى الإيرانى يهدد ويعلن أنهم ينتظرون بفارغ الصبر اليوم الذى سيقومون فيه باقتلاع إسرائيل من الوجود. الجيش الإسرائيلى من جانبه نشر مقطع فيديو لاستهداف وحدة سورية مضادة للصواريخ تمت إصابتها مباشرة، وفقاً لما هدد به «نتنياهو» من قبل باستهداف منظومة الدفاع السورية روسية الصنع.
الواقعتان لا تنفصلان، ضرب سوريا وما فيها من وجود إيرانى من جانب وتهديدات قولية وحماسية لا أكثر ولا أقل، ونجاح إسرائيل فى استقطاب عدد من دول أفريقيا من جانب ثانٍ، آخرها تشاد، التى وصف «نتنياهو» عودة العلاقات معها بأنها «ثورة» تحدثها إسرائيل فى العالمين العربى والإسلامى، باعتبار أن تشاد دولة ذات أغلبية مسلمة، ولكنها تراجعت عن مقاطعة إسرائيل دبلوماسياً بعد 45 عاماً. وهنا يتجلى الفعل على الأرض وإعادة بناء التحالفات بما يعزز من الحضور الإسرائيلى أفريقياً. بهذا المعنى فإن هذه الثورة المقصودة هى انقلاب جذرى فى المواقف والتحالفات الأفريقية الإسرائيلية على حساب التحالفات التقليدية العربية الأفريقية.
ما أشار إليه «نتنياهو» باعتباره «ثورة» تصب فى مصلحة إسرائيل، إجمالاً، ومصلحته الشخصية خاصة وهو على أعتاب انتخابات مبكرة بعد أقل من ثلاثة أشهر، ربطها بمحاصرة نفوذ كل من إيران والفلسطينيين، وتحديداً إنهاء ما سماه التأييد الميكانيكى الأفريقى للفلسطينيين وللقرارات الدولية التى تصدر من منظمات الأمم المتحدة لمناصرتهم. إضافة إلى فتح الأسواق الأفريقية للمنتجات الإسرائيلية المدنية والعسكرية والأمنية، وتعزيز الروابط الاستخبارية لمواجهة «التهديدات المشتركة»، المتمثلة فى الجماعات الإرهابية المسلحة، والمساعدة فى حماية الحدود للدول الأفريقية. وحسب المعلن فقد رافق «نتنياهو» فى زيارته لتشاد وفد كبير من وزارة الدفاع والاستخبارات، وتم بحث والتوقيع على صفقات أسلحة إسرائيلية، ومساعدات أمنية متنوعة.
تشاد ذات الأغلبية المسلمة ليست الأولى التى تفتح أبوابها لتل أبيب، فقد سبقتها دول أخرى أبرزها كينيا منذ العام 2016، ولجنوب السودان علاقات مع إسرائيل وسفارة فى تل أبيب، والتقارير الدولية تتحدث عن صفقات أسلحة إسرائيلية غير موثقة لنيجيريا، التى هى بحاجة إلى مساعدات أمنية كبيرة لمواجهة جماعة بوكو حرام الإرهابية. ومعلوم أن نيجيريا ومعها رواندا امتنعتا عن تأييد منح فلسطين صفة الدولة حين عُرض الأمر على مجلس الأمن قبل نحو العامين، ما أدى إلى إسقاط القرار نظراً لعدم حصوله على الصوت التاسع، والذى كان يؤهل فلسطين لنيل صفة دولة عضو فى الأمم المتحدة. وحينها نشر أن «نتنياهو» تحدث هاتفياً مع رئيس نيجيريا جوناثان جدلاك، الذى وعد بعدم تأييد القرار مقابل الحصول على مساعدات أمنية إسرائيلية فى صورة معدات ومعلومات استخبارية وخبرات ومستشارين. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فهناك أكثر من 60 شركة إسرائيلية تعمل فى نيجيريا وتستثمر فيها، ونحو 30 ألف مسيحى نيجيرى يزورون إسرائيل سنوياً بغرض السياحة الدينية والحج. ويذكر أن هناك 40 دولة أفريقية لديها علاقات دبلوماسية وتجارية وأمنية مع إسرائيل، سواء كلياً أو جزئياً، معلنة أو غير معلنة.
وهناك الكثير من المعلومات والتقارير التى تسرد تفاصيل الوجود الإسرائيلى فى كثير من الدول الأفريقية، كإريتريا وإثيوبيا ورواندا وجنوب أفريقيا والكاميرون وكينيا، بعضه يعود إلى عدة عقود مضت، وبعضه حديث نسبياً تم فى السنوات العشر الماضية، وثمة تفاصيل معروفة عن تطور الاستراتيجيات الإسرائيلية تجاه أفريقيا بداية من سياسة شد الأطراف التى ابتدعها رئيس الوزراء الأسبق بن جوريون، ومروراً باحتواء صدمة المقاطعة الأفريقية بعد العام 1973، ثم التغلغل المتدرج والانفتاح المزدهر، وأخيراً الثورة الدبلوماسية. وكل من القديم والجديد يؤكد أن نجاح إسرائيل فى التمدد أفريقياً يقوم على أربعة متغيرات متكاملة؛ أولها تفهم طبيعة السياسات والنظم الأفريقية واحتياجاتها الفعلية، لا سيما فى مجال أمن النظم الحاكمة والتحديات التنموية والمساعات، لا سيما فى مجالات الزراعة والتقنيات الحديثة والأسلحة، وتفهم أفضل لما تحتاجه تلك الدول، لا سيما المهددة من قبَل جماعات دينية مسلحة.
وثانياً توظيف حالة الفراغ العربى أو اللامبالاة العربية بالشأن الأفريقى بصفة عامة، ووجود انقسامات وتنافسات عربية شديدة الوطأة على هذا البلد الأفريقى أو ذاك، وهى تنافسات تصل إلى حد ما يعرف بـ«الضرب تحت الحزام» وتشويه بلدان عربية لبلدان عربية أخرى بصورة غير مسبوقة لدى المحيط الأفريقى، والعمل على الإضرار بمصالحها الحيوية فى أفريقيا، وتقديم منح ومساعدات عابرة ودون خطة أو استراتيجية واضحة.
وثالثاً فقدان القضية الفلسطينية زخمها التاريخى والاستغراق فى الانقسامات الداخلية، واهتزاز الصورة المبهرة للنضال الفلسطينى فى الساحات الأفريقية المختلفة، ورغم استمرار تأييد العديد من الدول الأفريقية للحقوق الفلسطينية بوجه عام، لكن التوجه الأفريقى الجديد يقوم على أنه لا تناقض بين تأييد الحق الفلسطينى من جهة، والتعامل مع إسرائيل من جهة أخرى للاستفادة من التطور التقنى لديها فى مجالات الاتصالات وأمن المعلومات والزراعة وحماية الموارد المائية. وهو ما عبر عنه الرئيس الكينى بوضوح أثناء زيارة «نتنياهو» لبلاده 2016 بالقول: «نعتقد أنه يجب علينا من جديد التعاون بصفة أقوى على قاعدة إيجابية مع إسرائيل». ورابعاً الدعم الأمريكى المعتاد لمبدأ الانفتاح على إسرائيل وفك عزلتها أفريقياً، والضغوط على الدول الأفريقية للامتناع عن تأييدها للقضية الفلسطينية.
وبالطبع فإن وجود رؤية واحدة للدولة، ومؤسسات تعمل وتتكامل فى تطبيق هذه الرؤية يختلف تماماً عن الحالة العربية التى تتعدد فيها الرؤى والسياسات، ويغيب عنها التوافق بشأن أفريقيا وهمومها، والتركيز على الأولويات الذاتية لكل بلد، وهو ما رأيناه فى القمة العربية الأفريقية الثالثة فى غينيا الاستوائية، حين انسحبت ست دول عربية تأييداً لموقف المملكة المغربية الرافض وضع علم جمهورية البوليساريو فى قاعة القمة. وهو ما أظهر أن هدف تطوير العلاقات العربية الأفريقية بات يخضع للاستقطاب العربى - العربى، والتنافس المغربى الجزائرى، وأن العبرة ليست فى الكم ولكن فى مدى تكامل هذا الكم وتوحد رؤيته نحو المصالح الجماعية. وكما يقال دائماً ليس المنتصر هو الأقوى، ولكن هو المغلوب على أمره هو الذى منحه الانتصار على طبق من ذهب.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع