بقلم : د. حسن أبوطالب
بعد أشهر قليلة -وتحديداً مطلع مايو المقبل- وفى حال استمرار الأوضاع السياسية الراهنة فى الجزائر على حالها، من المقرر أن تُعقد الانتخابات الرئاسية. كل شىء فى الجزائر الآن يدور حول هذا الاستحقاق المهم، سواء كان مباشراً يتعلق بحركة الأحزاب والقوى السياسية ورموز السلطة والحزبين الكبيرين ومن ورائهما قوى المال والأمن والإدارة العليا، أو غير مباشر كالقضايا التى تفرض نفسها وتكشف بعض الخبايا المثيرة الموجودة فى بنية النظام السياسى ذاته. الدعوات التى تصدر من حزبَى السلطة، الجبهة الوطنية والتجمع الوطنى الديمقراطى، الذى يوصف بأنه حزب الرئيس، تناشد الرئيس بالترشح لعهدة خامسة رغم مرضه العضال منذ العام 2013، والذى يمنعه من الحركة ومن الكلام، تقابلها دعوات واضحة أو مبطَّنة من قبَل رموز حزبية وأكاديمية تنادى الرئيس بأن يخلد للراحة، وأن يفتح الباب أمام بدء مرحلة جديدة فى حياة الجزائر والجزائريين، كتلك الرسالة التى نشرها 14 أكاديمياً جزائرياً فى مايو الماضى. الداعون إلى عهدة جديدة يرون أن العقدين الماضيين حملا للجزائر الكثير من الاستقرار والمرونة السياسية فى وقت تعرضت فيه دول مجاورة للجزائر إلى عواصف هائلة، وأن ثقة الجزائريين فى الرئيس بوتفليقة سوف تعيد تجربة انتخابه فى العام 2014 بالرغم من أنه لم يقم بأى دعاية انتخابية آنذاك، وأن تلك الخبرة الجيدة تدعو إلى تكرار التجربة، لا سيما أن تهديدات الإرهاب والفساد والرشوة باتت فى معدلات عالية. وهى التهديدات التى يدعو حزب التجمع الوطنى الديمقراطى إلى تشكيل جبهة شعبية تضم كل الأحزاب والمجتمع المدنى لمواجهتها تنفيذاً لتوجيهات الرئيس بوتفليقة. غير أن فترة الأعوام الأربعة الماضية شهدت الكثير من التقارير الأكاديمية والصحفية لكبريات الصحف العالمية، وكذلك تقارير المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، تُجمع معظمها على أن الوضع فى الجزائر -وإن ساده قدر من الاستقرار العام منذ العام 1999 ممزوجاً بالمرونة وتوزيع العوائد على الفئات الاجتماعية المختلفة، لا سيما حين كان سعر النفط مرتفعاً، مع تغييرات سياسية ودستورية محسوبة استطاعت أن ترضى جزئياً تطلعات الجزائريين- إلا أنه مُحمل بالكثير من محفزات عدم الاستقرار الكامنة والتى تنتظر سبباً واهياً للانفجار العاصف. ووفقاً لتقرير صندوق النقد الدولى -نُشر فى أكتوبر 2017- انخفضت نسبة النمو الاقتصادى فى الجزائر إلى 8 من عشرة فى المائة، فى الوقت الذى انخفضت فيه عائدات النفط إلى 41 مليار دولار، والتى تشكل 98 فى المائة من إجمالى الناتج الوطنى. كما ارتفع العجز التجارى ليصل إلى 9 مليارات دولار فى الربع الأول من هذا العام، وباعتراف الحكومة فهناك نحو ربع عدد السكان، أى عشرة ملايين نسمة من إجمالى 42 مليون نسمة، باتوا فى عداد الفقراء، بينما تقدر تقارير الأمم المتحدة عدد فقراء الجزائر بثلاثة عشر مليون نسمة.
أما عن مكافحة الفساد فموقع الجزائر فى التقارير الدولية لم يشهد تحسناً فى الأعوام الماضية، إذ يُعد مشكلة كبرى، لعل انتشار الكوليرا وتورط بعض كبار القادة الأمنيين والقضاة فى تهريب المخدرات يعطى مؤشراً على الدور التخريبى الذى يؤديه انتشار الفساد رأسياً وأفقياً، ويلقى بظلاله السوداء على الوضع المجتمعى العام؛ حيث تم فى العام 2017 محاكمة أكثر من 1400 مسئول محلى مُنتخب بتهم الاختلاس وهدر المال العام، ووُجهت تهم بالفساد إلى 250 رئيس بلدية. ووفقاً لمؤسسة الشفافية الدولية، فى تقريرها للعام 2017 حول مؤشر مدركات الفساد، تحتل الجزائر المرتبة 112 من بين 180 دولة. وحسب تحليلات باحثين جزائريين فإن الفساد استُخدم كآلية للموازنة بين القوى السياسية المختلفة، وصار أسلوباً لتهدئة الخواطر ودمج البعض فى المنظومة الكلية للبلاد، وهو ما أثر بالفعل على كفاءة وفاعلية الأحزاب السياسية والأجهزة الحكومية التى أصبحت قليلة المصداقية أمام المواطنين. كذلك تعانى منظمات المجتمع المدنى كثيراً من القيود على أنشطتها وفقاً للقانون الصادر فى 2012، مما أدى إلى انخفاض عدد الجمعيات غير الحكومية من 93 ألف جمعية إلى 49 ألف جمعية فقط فى العام الحالى.
هذا الجدال يعكس، فى حد ذاته، حالة سيولة فى تحديد ما الذى تحتاجه الجزائر، الاستقرار المصحوب بحالة جمود فى كافة المعادلات السياسية والمجتمعية الراهنة، أم حالة حراك محسوب من خلال الآليات السياسية المنصوص عليها فى الدستور، حسب تعديلاته الأخيرة فى العام 2014، كالانتخابات الرئاسية بين مرشحين لا تشوبهم شائبة. المدافعون عن حاجة الجزائر إلى الحراك الطبيعى، والانتقال من عهد إلى آخر، يرون أن تجربة الأربع سنوات الماضية لا تتيح الدفاع عن الاستمرار، ويشيرون إلى أمثلة عديدة يمر بها المجتمع الجزائرى تجسد الآثار السلبية، من قبيل ظهور الكوليرا بعد اختفاء تام من البلاد منذ ربع قرن، كتعبير عن تردى أوضاع الصحة العامة وشيوع الفساد فى مجال البيئة، لا سيما المياه والزراعة. وثانياً تورط قادة أمنيين كبار، كالمدير العام للأمن عبدالغنى هامل، الذى أقاله الرئيس بوتفليقة، فضلاً عن الإطاحة بأربعة قضاة بسبب ما وُصف بالعلاقة الوطيدة مع المتهم الرئيسى فى استيراد وتهريب شحنة الكوكايين التى قُدرت بأنها الأكبر من حيث الكمية، إذ وصلت إلى 710 كجم، والتى ضبطها الجيش فى ميناء وهران فى مايو الماضى. ويتم التحقيق فى القضية، ولكن فى صمت شديد، حتى لا تؤثر نتائج التحقيقات على نخبة الحكم، وثالثاً تحدى الإرهاب المقبل من البيئة الإقليمية، وهو ما يضغط على الموازنة العامة بشكل كبير، إذ رُفعت المخصصات إلى 15 مليار دولار لدعم المؤسسات الأمنية والجيش لضبط الوضع الأمنى العام وإفشال محاولات المنظمات الإرهابية العابرة للحدود.
وكثير من التحليلات تنتهى إلى أن الجزائر بحاجة إلى عملية مراجعة هيكلية سياسياً واقتصادياً، وأن تتوافر للأحزاب فرصة التواصل الحر بالمواطنين فى كل الأوقات وليس فقط فى أوقات الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية، وأن تُرفع يد الوصاية عن المرشحين الراغبين فى الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، لا سيما إن قرر الرئيس بوتفليقة عدم الترشح، وأن تخفف القيود على عمل الصحف والإعلام والمجتمع المدنى بوجه عام. والتحذيرات لم تعد تأتى من الداخل وحسب، بل أيضاً من الخارج. فلا أحد داخل الجزائر وخارجها يتمنى العودة مرة أخرى إلى خبرة التسعينات المريرة. ومثل هذه المطالبات هى بالفعل مناشدات مشروعة لتفعيل التعديلات الدستورية للعام 2016 التى عززت النظام الديمقراطى والتعددية والحقوق والحريات، حسب وصف الرئيس بوتفليقة نفسه.
نقلًا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع