بقلم : د. حسن أبوطالب
فى موسوعة دراسة للتاريخ، التى ألفها المؤرخ البريطانى أرنولد توينبى انتهى إلى أن حركة المجتمعات والحضارات الكبرى تتلخص فى كلمتين وهما التحدى والاستجابة؛ الأولى تعنى التحولات الحضارية الكبرى، والثانية تعنى الأسلوب الذى تتعامل به الحضارات والمجتمعات مع تلك التحولات الكبرى. وهنا مربط الفرس كما يُقال، فاستنادا إلى هذه الاستجابة وأسلوب التكيف مع التحولات والقدرة على مواجهة الخطير منها والاستفادة من الإيجابى منها، يتحدد عمر الحضارة محل الدراسة. الفكرة من حيث المبدأ قابلة للتطبيق على حياة الأفراد وكل المجتمعات والدول القومية فى حالتها الراهنة. والشىء المؤكد أن مفهوم التحول لا يعنى إطلاقا عملية لها بداية محددة ونهاية معروفة مسبقا، بل هى تعبير عن حالة تغير دائم، سواء فى الكيفية أو فى المدى الزمنى أو فى طبيعة المادة نفسها. ومن ثم فإن التحدى بمعناه العام أمام الأفراد والدول والمجتمعات لا يتوقف، ومع مرور الزمن ففى كل لحظة هناك تحد وفى كل لحظة هناك أيضا استجابة، قد تأخذ أسلوبا حيويا أو مسارا ساكنا لا يفيد، ومن ثم يتغلب التحدى على صاحبه.
هذا الفهم العام للعلاقة بين التحولات وأسلوب الاستجابة يمكن تطبيقه على مصر والسودان فى ظل التغيرات الكبرى التى تحيط بهما. وكما هو واضح من زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى الخامسة للخرطوم، والأولى فى ولايته الرئاسية الثانية أن الاهتمام المصرى بحجم الترابط التاريخى والمجتمعى والمصلحى مع السودان يشكل حجر الزاوية فى سياستها الخارجية عربيا وإفريقيا سواء فى اللحظة الجارية أو ما يتعلق بالمستقبل القريب والمتوسط. وهو ما يقابله اهتمام مماثل من قبل الخرطوم. هذا الترابط المتعدد المستويات لا يُشكل معطى فعّالا فى حد ذاته إن لم يتم شحنه دائما بالجهد والتنسيق والتفاعل الإيجابى مع المجريات المحيطة، بل على العكس إن تم التعامل مع المعطيات التاريخية باعتبارها قادرة على الحفاظ على قوتها ومتانتها ودون متابعة ودون تنسيق ودون مراعاة للتحولات الإقليمية والداخلية فى كل بلد على حدة، تتلاشى تلك المعطيات وقد تتحول إلى قيود وإلى عقبات.
وقد شهدنا بالفعل فى لحظات تاريخية قريبة، وبفعل التغيرات التى شهدتها المنطقة ككل منذ 2011 كيف أن هناك من يستميت فى إثارة الغيوم، وتحويل المعطيات التاريخية بحلوها ومرها الى عقبات ونقاط ضعف بدلا من ان تكون نقاط قوة لمصلحة البلدين والمجتمعين. وبالرغم من ان بعض العقلاء فى كلا البلدين كانوا حريصين على جعل مجالات التشابك المجتمعى والسياسى والاقتصادى أكثر اتساعا ورحابة وفائدة لكلا الطرفين، من خلال مناقشة موضوعية لنقاط الخلاف الطبيعية التى تظهر بين حين وآخر، فقد ظهر بعض آخر كان ينحو إلى فك تلك الروابط وتحويل القضايا الفرعية إلى إشكاليات أساسية تؤدى بعلاقات البلدين إلى الصدام والتباعد. هؤلاء تأثروا أيضا بمحاولات قوى بعيدة سعت دائما إلى محاصرة المصالح المصرية. ولعل من أصعب اللحظات التى مر بها البلدان تلك التى شهدت ظهور اتهامات ذات طابع رسمى بأن مصر تعمل على إسقاط النظام الحاكم فى البلد الشقيق، وأن تعاونها الطبيعى مع إرتيريا هو مقدمة لغزو جزء من الأراضى السودانية من جهة الشرق. وفى الخلف من ذلك تباينات مهمة فى ملف سد النهضة الإثيوبى. ولكم تأثرت تلك الاتهامات بالتوتر الإريترى الإثيوبى آنذاك، وقبل المصالحة التاريخية بينهما التى يقودها حاليا زعيما البلدين أسياسى افورقى وآبى أحمد.
فى تلك اللحظات المرة أكدت القاهرة مبادئ سياستها التى لا تحيد عنها وهى عدم التدخل فى شئون الغير ولا تآمر على مصالح الأشقاء، ولا نزوع الى الحروب معهم أيا كانت الخلافات حول تلك القضية أو تلك. وهى التأكيدات التى حرص الرئيس السيسى على تكرارها أمام جماعة المثقفين وقادة الرأى السودانيين فى لقائه معهم فى الخرطوم.
إذا وضعنا أمامنا مفهوم التحدى والاستجابة المُشار إليه آنفا، يمكن تبين إلى أى مدى أن كلا البلدين بحاجة ماسة إلى مواصلة بناء علاقات أكثر تشابكا وأكثر رسوخا وأكثر قدرة على حماية مصالحهما المشتركة. فى السنوات الخمس الماضية تغيرت معطيات الإقليم تغيرا جذريا. البحر الاحمر لاسيما مدخله الجنوبى شهد تغيرات ضاغطة على أمن البلدين. لسنوات طويلة كان البحر الأحمر بعيدا نسبيا عن تدخلات الغير البعيد. كانت التدخلات تحدث لمواجهة أزمات طارئة ثم تتوارى وتختفى حتى حدوث أمر طارئ آخر وهكذا. الآن أصبحت التدخلات دائمة. حجم القواعد العسكرية الأجنبية وأعدادها تتزايد عاما بعد آخر. من يبنى قاعدة عسكرية يهدف إلى نزع جزء مهم من سلطة ومكانة الدول المشاطئة للبحر الأحمر، كما يهدف إلى تغيير التحالفات فى الإقليم ككل. تلك حقيقة لا يمكن تجاهلها. الرد على هذا النوع من التحدى يجب ألا يقل عن تحالف مضاد، أكثر شمولا من التعاون العسكرى. مصر والسودان لديهما كل مقدرات وامكانات بناء هذا التحالف الشامل المبنى على مبدأ تعميق المصالح المشتركة ومواجهة التحديات المحيطة. المهم هنا هو وضوح الرؤية وتفعيل تلك المقدرات وتنحية القضايا الفرعية جانبا لوقت آخر سوف تحل فيه من تلقاء نفسها.
فى السياق ذاته يبدو مهما توسيع مجال هذا التحالف ليصبح إقليميا وليبدأ مع الدول العربية المشاطئة للبحر الأحمر فى صوررة تنسيق أمنى رباعى يجمع بين مصر والسودان والسعودية والأردن، وفى مرحلة لاحقة وبعد أن تستقر أوضاع اليمن والصومال، يدخل البلدان رويدا رويدا فى هكذا تحالف بحر أحمر موسع، ولتنسيق مع إريتريا وأثيوبيا. فالتحديات الكبرى لا تواجهها إلا استجابات كبرى. الاقتصار على خطوات محدودة ققد يفيد مؤقتا، ولكنه لا يفيد على الدوام. ثمة تغير مهم وإيجابى، ويمثل أيضا تحديا حضاريا وتاريخيا كبيرا لكل من مصر والسودان، فتلك المصالحة الإثيوبية الإريترية، لا تقتصر نتائجها المنتظرة على علاقات البلدين وحسب. هذه المصالحة تحرر مصر والسودان من أى قيود أو اعتبارات مفترضة فى التعامل مع الطرف الآخر. يبدو لى أن البلدان الأربعة عليها ان تفكر فى صيغة تعاون تنموى جماعى، لاسيما أن الجميع لديه قلق كبير من هؤلاء الوافدين من بعيد ويريدون أن يحددوا لبلدان الإقليم ما يجب وما لا يجب.
نقلًا عن الاهرام القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع