بقلم : د. حسن أبوطالب
فى إحدى الدورات التدريبية لخريجى عدد من الجامعات سألتنى خريجة أحد أقسام العلوم السياسية عن كيفية إعداد نفسها لكى تكون متخصصة فى الشئون الأمريكية، وكانت إجابتى ذات طابع تقليدى إلى حد كبير، مثل اقتراح قراءة عدد من الكتب الأساسية حول نشأة النظام السياسى الأمريكى ومراجعة الدستور الأمريكى وتعديلاته المختلفة والظروف التى تم فيها كل تعديل، ثم مراجعة مذكرات بعض أهم السياسيين والرؤساء الأمريكيين، مع متابعة بعض الدوريات السياسية الرئيسية لمعرفة الحوار الداخلى وكيف يؤثر على صنع القرار ودور اللوبيات الرئيسية الكبرى ووسائل الإعلام، وبشكل عام أعتقد أن هذه المصادر كفيلة بأن تؤهل أى باحث أن يكون متخصصاً فى الشأن الأمريكى بعد قراءتها بتمعن شديد، ولكن يبدو أن الأمور فى الداخل الأمريكى لم تعد ترتبط فقط بمعرفة المصادر الرصينة والكتابات الفكرية، بل هناك مصادر أخرى تفرض نفسها فى معرفة أهم شىء فى عملية صنع القرار الأمريكى وهو دور الرئيس نفسه باعتباره منتخباً ومفوضاً من الشعب لكى يحافظ على المصالح العليا للبلاد، ويؤمن للأمريكيين جميعاً فرصة العيش الكريم والمتطور.
هذه المصادر الجديدة تتعلق أساساً بكتب الصحافة الاستقصائية، أى التى يحررها صحفيون متمرسون فى الغوص فى دقائق الأمور ولديهم الكثير من المصادر الموثوقة، وتتوافر لديهم بشكل أو بآخر وثائق أصلية ليست متاحة للعامة أو على الأقل صور منها لا يمكن التشكيك فيها، وقادرون على إجراء حوارات مع أى شخصية مسئولة فى الوزارات المهمة والبيت الأبيض نفسه والحصول منه على معلومات وأسرار غير شائعة، هذه الكتب تقدم الكثير من التفاصيل التى أحياناً توصف بأنها مملة، ولكنها من حيث أسلوب الكتابة والتقصى تقدم روايات عن أشياء عدة كلها ذات صلة بآليات صنع القرار وشخصية صانع القرار ذاته. ومن ثم تقدم لنا هذه الكتب تحليلاً غير مباشر عن العلاقة بين طبيعة الشخصية وطريقة القيادة ومن ثم مخرجات هذه القيادة، ومن بينها ردود فعل المسئولين المقربين من هذه القيادة العليا، ومن ثم تتوافر لدينا نحن الراغبين فى معرفة بعض خبايا الأمور تفاصيل كثيرة تؤهلنا للحكم على التطورات بدرجة أعلى من الدقة، كما تساعدنا على التوقع والترجيح لما قد يحدث فى الغد القريب.
خصائص ما يعرف بكتب الصحافة الاستقصائية تنطبق على كتاب الصحفى بوب ودورد المعنون بـ«الخوف.. ترامب فى البيت الأبيض» المقرر صدوره هذه الأيام، الذى سربت منه بعض المقاطع حول عدد من المواقف التى جمعت ترامب بعدد من مساعديه وتعلقت بإصدار قرارات معينة أو حوارات حول قضايا معينة تخص علاقة أمريكا بالعالم، ومجمل التسريبات تدور حول ثلاثة عناصر رئيسية، أولها أن الرئيس ترامب غير مُلم بالمصالح الأمنية الكبرى للولايات المتحدة، وثانياً أن اهتمامه الأول هو لجمع الأموال ولو على حساب حلفاء أمريكا المقربين، وثالثاً أنه عصبى المزاج ولا يقبل رأياً مخالفاً، إضافة إلى أنه مندفع بطبعه ويتصور أن وعوده الانتخابية لها الأولوية على أى شىء آخر بما فى ذلك نصائح واقتراحات المؤسسات الرئيسية كالاستخبارات والبنتاجون ووزارة المالية والبنك الفيدرالى.
هذه العناصر الثلاثة لشخصية الرئيس ترامب هى السبب وراء حالة الخوف التى عنون بها الكاتب كتابه، والعنوان يحمل معنيين متضاربين ومتكاملين فى الآن نفسه؛ الأول معنى يتعلق بخوف ترامب نفسه ممن يحيطون به، والثانى خوف المحيطين به ويعملون معه من القرارات والمواقف التى يُصر عليها ترامب وقد تؤدى إلى كوارث كبرى بالنسبة للأمن القومى الأمريكى، وإذا ساد هذا الشعور بين القائد وكبار العاملين معه فمن الطبيعى أن تكون حالة التوجس والشك سائدة بما يحول دون شفافية العلاقة المطلوبة بين الرئيس والمرؤوسين، ومن ثم تصبح الفوضى بالمعنى المادى الملموس هى النتيجة الطبيعية، وهى النتيجة التى أبرزها المقال الذى نشرته الـ«نيويورك تايمز» لكاتب مجهول، يعتقد أنه أحد كبار العاملين فى البيت الأبيض، أكد فيه أن هناك مجموعة داخل البيت الأبيض تعتبر نفسها جبهة مقاومة سلمية وخفية فى داخل البيت الأبيض، مهمتها كبح جماح الرئيس وما قد ينتج عنها من كوارث كبرى.
ما جاء فى كتاب الخوف ومقال الكاتب المجهول يطرح فى الحقيقة الكثير من القضايا النظرية والعملية المتعلقة بصنع القرار فى البيت الأبيض، ودور شخصية الرئيس فى إدارة شئون القوة العظمى الأكبر فى العالم، وما يمكن أن تجلبه من متاعب وكوارث للعالم كله، هذه نقطة معروفة من قبل كعامل كلى فى التحليل وفى البحث، ولكنها فى حالة توافر تفاصيل كتلك التى تخرج بين الحين والآخر حول ما الذى يجرى بين الرئيس ترامب ومعاونيه فى إطار صراعى وليس تعاونياً كما هو مفترض ضمناً، يصبح الأمر أكثر إثارة وأكثر قلقاً فى الوقت ذاته، فهذه أول مرة نسمع فيها عن مقاومة سرية تكاد تكون منظمة داخل أروقة البيت الأبيض، وأن هناك من يعتبر نفسه فى مهمة إنقاذ بلاده من رئيس كثير الأخطاء وكثير النزوات ومندفع ومتسع الخصومات مع مؤسسات مهمة ومع الصحافة ككل، هذا شىء غريب وغير معتاد، ما يحدث عادة يتمثل فى أن بعض كبار المسئولين المحيطين بالرئيس قد تكون لديهم رؤى مختلفة عن قضية أو تحرك معين، ويتم النقاش ثم ينتهى بقرار ملزم للجميع،
فكرة أن تكون هناك مقاومة سرية ويعلن عنها من بعض كبار الموظفين سواء بصورة متفق عليها أو بصورة ضمنية، هى أقرب أن تكون انقلاب قصر ولكن بشروط أمريكية بحتة، المقاومة هنا تأخذ طابع الامتناع عن تنفيذ أوامر الرئيس وإخفاء أوراق وقرارات مهمة حتى لا يتم توقيعها رئاسياً، وما خفى كان أعظم. وفى حال صدق هذا المشهد فلا يمكن تصور حدوثه إلا بالتوافق الضمنى أو المخطط مع كبار رموز الإدارة ككل، وبمشاركة وزراء مهمين، إنه تطور جديد بكل المقاييس ويعكس تشرذم سلطة ترامب، والجائز هنا أن تلك المقاومة السرية من قبل كبار الموظفين ليست إلا فكرة متخيلة، ولا تحدث بمثل هذا الشكل، غير أن مجرد الإعلان عنها قد أدى غرضه وحقق هدفه، على الأقل زيادة حدة الشكوك بين الرئيس وكبار معاونيه، إلى جانب الدلالات الأخرى كقلة خبرة الرئيس واندفاعه وغيرها من الصفات الكفيلة بأن تجعل فكرة التخلص من الرئيس أمراً مُسيطراً على من بيدهم القرار.
نقلًا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع