توقيت القاهرة المحلي 22:47:21 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نحو عالم من الفوضى غير الخلاقة

  مصر اليوم -

نحو عالم من الفوضى غير الخلاقة

بقلم - حسن أبوطالب

بالقَدْر نفسه الذي يثيره العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة من فوضى جيو - سياسية وأمنية كبرى في شرق المتوسط، هناك نُذُر فوضى وغياب للقواعد في مناطق مختلفة من العالم، ما يجعل النظام الدولي في حالة سيولة بالغة الخطورة. فحين نفّذت روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا كان التعبير الأكثر استخداماً لدى الرئيس بايدن، ووزير خارجيته بلينكن، لتبرير حِزَم العقوبات الأميركية والغربية التي طُبِّقت بحق روسيا هي «كسر القواعد»، في إشارة إلى أن النظام الدولي تحكمه قواعد لم تلتزم بها روسيا، فحقَّ عليها العقاب. وفي الآن نفسه فإن مفهوم حق الدفاع عن النفس لم تستخدمه الإدارة الأميركية وتوابعها بالكثافة نفسها التي استخدمت فيها مفهوم كسر القواعد، ما يؤشر إلى أن الأولوية الأميركية في الحالة الأوكرانية ارتبطت بالدرجة الأولى بمناهضة الأطروحات التي كررتها موسكو وبكين بشأن السعي إلى نظام دولي جديد يستند إلى تعددية قيادة العالم والحد من الهيمنة الأميركية.

في حالة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، احتل مفهوم الدفاع عن النفس لصالح إسرائيل بصورة حصرية المكانة الأبرز في مبررات واشنطن وتوابعها الغربيين لمساندة العدوان من دون قيود، كما استُخدم المفهوم في تبرير فعل جيش الاحتلال ما هو مُدان في المعاهدات الدولية المنظِّمة للحروب؛ مثل: تجويع السكان ومنع الماء والوقود والعقاب الجماعي، وتدمير المستشفيات والبنية التحية المدنية، وهدم المنازل على سكانها، واستخدام أسلحة محظورة دولياً كالقنابل الفسفورية والعنقودية، وإجبار السكان على النزوح إلى الجنوب، واعتقال عدة آلاف من أهل غزة من دون معرفة أدنى معلومة عن مصيرهم... كل ذلك ولم تتخلَّ واشنطن عن منح الجيش الإسرائيلي آلاف القنابل والصواريخ، للاستمرار في تجريد القطاع من أدنى مقومات الحياة، كما لم تتخلَّ عن معارضتها الفجة لكل جهود وقف إطلاق النار. ورغم الحديث المتواتر عن خلافات في الرؤية بين تل أبيب وواشنطن، ومطالبة الأخيرة بتغيير أسلوب العدوان والتحول إلى العمليات النوعية وتخفيف القتل العشوائي، ما زال العدوان قائماً وعداد الشهداء الفلسطينيين يتصاعد لحظة بعد أخرى، والتدمير المنهجي لكل شبر في القطاع هو سيد الموقف.

المهم في هذه المأساة أنها لم تعد تتعلق بقطاع غزة بوصفها حالة مادية خاصة، بل بوصفها حالة معنوية وقانونية ورمزية؛ فمفهوم القواعد الذي تتمسك به الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها على قمة النظام الدولي، كُسر إلى الأبد، ومعه كُسرت هيبة أميركا، وفقدت معه الردع السياسي والمعنوي والأخلاقي. ومن ثم فُتح باب الفوضى على مصراعيه، ومنه ولجت أطراف دولية وغير دولية لتحقيق مصالح تتناقض تماماً مع الحد الأدنى من قواعد المعاهدات الدولية وميثاق الأمم المتحدة، بل مواثيق كثير من المنظمات الإقليمية. فَتحُ هذا الباب نحو الفوضى العالمية يؤشِّر بدوره إلى اقتراب العالم الذي نعرفه حالياً من نقطة اللاعودة.

أمثلة الفوضى باتت تتراكم بسرعة، وفي تراكمها نُذُر مواجهات كبرى، قد تبدأ إقليمياً وتنتهي عالمياً. فالتجرؤ على الولايات المتحدة، وهي القطب الأكبر عالمياً، أصبح أمراً يسيراً لدى دول وجماعات، كما أصبح الشك كبيراً لدى كثير من أصدقاء للولايات المتحدة في قدرتها على ضبط حركة النظام الدولي. فكل ما أقدمت عليه واشنطن لمنع توسع الصراع في الشرق الأوسط، يبدو الآن بلا معنى، ومؤشرات توسع الصراع وتورط واشنطن تزداد بين ساعة وأخرى، والحيرة والارتباك السياسي والاستراتيجي في صنع القرار الأميركي لم يعودا خافيين على أحد، وأقل الأطراف عُدةً وعتاداً كالحوثيين في اليمن ومنظمات الحشد الشعبي في العراق، وحتى مجموعات القرصنة في بحر العرب لا يبالون بكمّ القطع البحرية الأميركية والأوروبية التي تجوب المنطقة.

التجرؤ على الردع الأميركي، سياسياً وأمنياً، لم يعد محصوراً في مجموعات ومنظمات بعضها مرتبط بإيران والبعض الآخر لديه دوافع مختلفة، بل أصبح أكثر وضوحاً في سياسات دول، كالصين وكوريا الشمالية، وكلتاهما لديها قائمة حساب مع واشنطن ترغب في تسويتها، مع اختلاف الأسلوب والسرعة. والجامع بينهما هو الاعتقاد الجازم بأن فرصة الإطاحة بالهيمنة الأميركية عالمياً تبدو سانحة، ولن يندهش كثيرون إن بادرت الصين، في ضوء قناعة رئيسها شي جينبينغ، بحتمية استرداد تايوان سلماً أو حرباً، بشن عملية عسكرية في غضون مدى زمني قريب جداً، وحينها سيصعب على كثيرين إدانتها، نظراً للتشابه الذي قد تنطوي عليه عملية الضم بالقوة، مع ما تفعله إسرائيل برعاية أميركية لإعادة احتلال قطاع غزة وتهجير سكانه الأصليين، أياً كانت المسميات وأوجه التجميل التي ستحاول بها تبرير هذا الضم.

نُذُر الفوضى آسيوياً تمتد إلى القرارات التي اتخذها زعيم كوريا الشمالية لإنتاج مزيد من قواعد الصواريخ الباليستية، وإنتاج مزيد من الأقمار الاصطناعية التجسسية والغواصات، والذخائر بكميات كبيرة استعداداً لمواجهة أي عمل عدائي من الجارة الجنوبية، في الوقت الذي فقدت فيه العقوبات الدولية والأميركية أي تأثير على سلوك النظام الكوري الشمالي المتشكك دوماً في الولايات المتحدة.

حتى حلفاء الولايات المتحدة في الناتو أو في تحالفات حديثة، وهم يحافظون على الشراكة الاستراتيجية معها، باتوا أكثر تشككاً في احتمال نصرة الولايات المتحدة لهم عسكرياً، إنْ تعرضوا لعدوان أو هجوم من طرفٍ معادٍ. وفي العام الماضي أصدرت دول عدة حليفة لواشنطن كبرلين وروما ولندن وسيول وطوكيو وأستراليا، مراجعات استراتيجية ووثائق عن أمنها القومي وسُبل الحفاظ عليه، وجميعها انطلقت من قاعدة اكتساب مزيد من القوة العسكرية وتحصين الدفاع عن الذات، تحسباً لتهرب واشنطن من التزاماتها الدفاعية تجاه حلفائها.

أفريقياً، الفوضى تعمّ مواقع مختلفة، من جنوب ليبيا إلى السودان ودول الساحل والصحراء، ودعوات تتكرر لقيام دولة أمازيغية تمتد من أطراف مصر الغربية إلى الأطلسي، والأكثر خطورة أن تلجأ دولة المقر للاتحاد الأفريقي إلى هدر سيادة دولة جارة بالاعتراف الضمنيّ بمجموعة انفصالية والتعامل معها على أنها طرف دولي يحق له منح جزء من أرض الوطن لغيره نظير منافع ضئيلة. الحالة برمّتها لا تنفصل عن كسر القواعد، التي لم تعد محل احترام كثيرين يطمعون في ثروات الغير، ويجلبون على أنفسهم قبل غيرهم مخاطر عدة لا قِبَلَ لهم بها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نحو عالم من الفوضى غير الخلاقة نحو عالم من الفوضى غير الخلاقة



GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 15:30 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025
  مصر اليوم - ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف

GMT 04:47 2018 السبت ,06 كانون الثاني / يناير

تعرف على أسعار السمك في الأسواق المصرية السبت

GMT 14:38 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

جاكيتات "جلد النمر" الرائعة موضة العام المقبل

GMT 10:24 2015 الإثنين ,16 آذار/ مارس

"كلام من القلب" يقدم طرق علاج كسور الفخذ

GMT 04:18 2017 السبت ,14 تشرين الأول / أكتوبر

منال جعفر بإطلالة "رجالي" في آخر ظهور لها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon