أيام محدودة ويحل الرئيس الأمريكى بايدن زائراً للمملكة العربية السعودية، فى أول زيارة له لبلد عربى، حيث يجتمع مع قادته وقادة دول عربية خليجية وعربية فى مقدمتها مصر والأردن والعراق. وبالطبع ستكون إسرائيل محطة رئيسية للقاء قادتها جنباً إلى جنب لقاء مع الرئيس الفلسطينى محمود عباس ما لم تتغير أجندة اللقاءات المعلنة حتى اللحظة.
فى التمهيد لتلك الزيارة نشر الرئيس بايدن مقالة فى الواشنطن بوست يخاطب فيها الرأى العام الأمريكى قبل أى أحد آخر، ليفسر له الأسباب التى دفعته للقيام بتلك الزيارة فى هذا التوقيت تحديداً، بدافع تنشيط والحفاظ على علاقات واشنطن بالدول العربية ذات التأثير، وعلاقتها بالمصالح الأمريكية وتحقيق ما ينفع المواطن الأمريكى فى مجال خفض أسعار النفط بالدرجة الأولى، والحفاظ على ما وصفه بايدن بالاستقرار والهدوء فى المنطقة الذى تعزز حسب زعمه فى الفترة الماضية، وحماية أمن إسرائيل، وعزل إيران، وعدم السماح للنفوذ الروسى والصينى بالتمدد على حساب النفوذ الأمريكى. ولم ينسَ الرئيس بايدن أن يؤكد لليسار الديمقراطى والإعلام الأمريكى أنه سيتحدث عن حقوق الإنسان وفقاً للمبادئ الأمريكية، حتى لا يتصور أحد أنه باع مبادئه. وهى رسالة لا يتعدى تأثيرها الداخل المحلى الأمريكى، وكلنا كعرب ندرك ذلك جيداً.
تدور مجمل التفسيرات حول أن هناك متغيرات رئيسية جعلت الرئيس بايدن يغير بعض أفكاره تجاه دول مهمة فى المنطقة، وأن روسيا الساعية لقلب أوضاع النظام الدولى، والصين المتحفزة لقيادة العالم ربما بعد عقد من الآن، تستدعيان التحرك بواقعية بعيداً عن أوهام عزل هذا الطرف أو تجاهل قدرته على التأثير.
وأياً كانت التفسيرات والتبريرات التى قدمها الرئيس بايدن لزيارته المقبلة مستهدفة محاصرة الانتقادات الداخلية لأداء إدارته طوال العام والنصف المنقضى، ففى المحصلة هناك ملامح تحرك أمريكى مختلف تجاه الدول العربية الرئيسية، ولكنه لا يعنى أنه سيحقق اختراقات كبرى فى المشكلات والأزمات التى تعصف بالإقليم ككل، والتى تمثل السبب الرئيسى فى حالة اللا استقرار المزمنة.
وبالقطع فإن غياب الدور الأمريكى فى جهود التسوية السياسية الشاملة للقضية الفلسطينية طوال العقد المنصرم، ومنح إسرائيل كل المزايا للتصرف المنفرد فى مجال تسريع الاستيطان فى الضفة الغربية، والضغط على السلطة الفلسطينية، وتجاهل كل سبل التفاوض الجاد، والتغاضى عن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المشروعة، يؤدى إلى تصاعد مسببات القلق بشأن الاستقرار الإقليمى ككل، ولا يبشر بأى جهد محتمل للتراجع عن هذه السياسة الأمريكية.
ووفقاً للمُعلَن فإن الرئيس بايدن وفى محاولة للتقرب من السلطة الفلسطينية فإنه قد يمنح المستشفيات الفلسطينية، ويقال إن بعضها فى القدس، منحة مالية فى حدود مائة مليون دولار على سبيل تحسين أوضاع الفلسطينيين الصحية. وهى خطوة محدودة القيمة والأثر، ولا تُعد بديلاً عن ممارسة جهد حقيقى لإعادة الطرفين الإسرائيلى والفلسطينى إلى مسار التفاوض الجاد.
وفى المقابل فإن التركيز الأكبر هو لتوسيع مسارات التطبيع بين إسرائيل ودول عربية أخرى، أياً كانت مشاعر الرأى العام الداخلى، ما يبرز استمرار الانحياز الأمريكى، وعدم إدراك ساسة واشنطن للرابطة الوثيقة بين تسوية القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال الإسرائيلى، وبين بناء حالة استقرار مستدامة قد تقبلها نسبياً بعض قطاعات الرأى العام العربى وليس كله.
يمتد الانحياز الأمريكى إلى الموقف من إيران وتكثيف الضغوط عليها وعزلها إقليمياً، والسعى لإنشاء مظلة دفاعية جوية صاروخية تجمع إسرائيل ودولاً عربية أخرى، لا يبدو لها أى أفق للنجاح لما فيها من تناقض صارخ بين المصالح الأمنية العربية فى حدها الأدنى، ومصالح إسرائيل التى تروج لهذا المشروع باعتباره الضامن لأمنها أولاً، ثم أمن من يتحالف معها ثانياً، برعاية أمريكية ثالثاً.
وما دام هناك تجاهل تام للتسوية الشاملة للقضية الفلسطينية، ستظل مثل هذه المشروعات الأمريكية الإسرائيلية مجرد أفكار جوفاء غير قابلة للتطبيق مهما تم الترويج السياسى لها، ومهما مورست ضغوط علنية أو سرية. والمؤكد هنا أن الأطراف العربية المعنية تدرك تماماً مصالحها الأمنية الراهنة والبعيدة المدى، وأن الرأى العام لديها يمثل متغيراً رئيسياً لا يجوز تجاهله، فضلاً عن أن العلاقة مع إيران وبالرغم من التوتر الذى يخيم عليها مع بعض دول الخليج، فإن مبدأ الحرب والتحضير لهجوم ولو نظرى ودعائى، هى أمور لا يمكن حتى التفكير فيها، ويزداد معدل الكراهية لمثل هذه المسارات العدائية إذا ارتبطت ببلد يحتل أرضاً عربية.
والثابت أن هناك مسارات للنقاش والبحث فى احتواء أسباب التوترات بين أطراف خليجية كبرى وإيران، بعضها معلن وبعضها غير ذلك، ما يعنى أن الهدف الأول هو إبعاد شبح الحرب وإتاحة فرصة للدبلوماسية لتسوية ملفات التوتر خليجياً وعربياً، سواء البرنامج النووى الإيرانى، أو دعم الميليشيات التابعة لطهران، أو موقف الحوثيين من الهدنة وقبول تسوية شاملة للأزمة اليمنية.
وليس بخافٍ على أحد أن السياسة الأمريكية فى عهد بايدن، ومع التداعيات الدولية الناتجة عن الحرب فى أوكرانيا، ومن خلال مسيرة المفاوضات بين إيران والدول الغربية، فهى تعمل على إعادة العمل بالاتفاق النووى الإيرانى من حيث السيطرة على قدرات إيران النووية تماماً، مع غياب ضمانات حقيقية بالتزام أمريكى طويل المدى بالجوانب الأخرى المتعلقة برفع العقوبات والسماح للاستثمارات الأجنبية بالدخول إلى إيران وفك تجميد الأموال الإيرانية، وفى أفضل الأحوال قد ترفع أمريكا القيود على بيع النفط الإيرانى للأسواق الدولية لتعويض الحصار المفروض على النفط الروسى.
وهى صيغة لا تُعد مغرية لطهران، كما أنها قابلة للانتكاس من قبل واشنطن إن تغيرت الإدارة الحالية، ما يمثل نقطة ضعف كبرى تدركها الكثير من العواصم العربية المعنية. لأن المطلوب ليس سياسات مرحلية، بل سياسات مستقرة ومضمونة تُيسر بناء حالة استقرار إقليمى مستدام وليس متوهماً وقابلاً للتراجع لأسباب أمريكية خاصة.
إن القيود المحيطة بزيارة الرئيس بايدن وإن خفضت التوقعات من ورائها، فستظل تعبيراً عن حالة تغير أمريكى يتسم بالواقعية افتقدتها الإدارة الحالية طوال الثمانية عشرة شهراً الماضية. وهى واقعية تفرض على أى قوة دولية أن تدرك جيداً أن الإقليم لديه أيضاً قادته الكبار، ولديه الدول التى لا يمكن الاستغناء عنها لأمن العالم واستقراره، ولديه الطموحات المشروعة فى بناء سلام حقيقى، ولديه أيضاً ضغوط داخلية تتم معالجتها بحكمة ومراعاة لمصالح المواطنين.
ومن يتجاهل ذلك فهو الخاسر أولاً وأخيراً، وليس أمامه سوى مراجعة حساباته كلياً.