بقلم - د. حسن أبوطالب
تتوالى تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلى لابيد الغاضبة من قرار موسكو بدء إجراءات إغلاق الوكالة اليهودية فى روسيا. الغضب مبرر باعتبار أن الوكالة تُعد امتداداً للنفوذ الإسرائيلى فى الداخل الروسى، ولكونها منظمة نشيطة تستهدف جلب المهاجرين اليهود الروس وفق شروط خاصة، أبرزها أن يكون طالب الهجرة فى مرحلة عمرية قادرة على العطاء، وله خبرات فى مجالات مهمة كالهندسة والإلكترونيات والطب والبنوك ومجالات الرقمنة، وكافة المجالات التى تحتاجها إسرائيل لتطوير ذاتها بقدرات بشرية جاهزة ولم تصرف على تنشئتها بنساً واحداً، ولذا فقرار الإغلاق إن أُخذ من قبَل المحكمة التى سوف تبدأ غداً الخميس النظر فى التماس الحكومة بغلق الوكالة، فسوف يمثل ذلك ضربة كبرى للنفوذ الإسرائيلى فى الداخل الروسى.
توجُّه الحكومة الروسية ضد الوكالة اليهودية وعدد آخر من المنظمات اليهودية العاملة فى مجال جلب المهاجرين اليهود الروس بدأ منذ مطلع العام الجارى، وقبل ثلاثة أشهر من بدء العملية العسكرية الخاصة فى أوكرانيا، وهو ما يضرب بعنف مقولات الساسة الإسرائيليين الذين يفسرون توجه موسكو بكونه عقاباً سياسياً لتل أبيب نظراً لموقفها المؤيد لأوكرانيا والرئيس زيلينسكى رغم محاولات الظهور كطرف محايد. والأسباب المعلنة روسياً أن الوكالة تجاوزت القانون الروسى المنظم لعمل الجهات الأجنبية، ووفقاً لمذكرة وزارة العدل الروسية المقدمة للمحكمة لغرض تفكيك الوكالة اليهودية أنها «تجمع وتحتفظ وتنقل معطيات حول مواطنين روس بصورة مخالفة للقانون، ونشاطها يشجع على هجرة الأدمغة من روسيا». وفى تحليلات صحفية روسية ذُكر أن نشاط الوكالة يمثل تهديداً للأمن القومى الروسى، وخطراً على الداخل، والوكالة تمارس سلوكاً أقرب إلى التجسس إن لم يكن تجسساً صريحاً بالفعل، وهو خرق فج للخصوصيات. وجوهر الموقف الروسى استناده إلى القانون، والحرص على حماية الداخل من الممارسات المشبوهة التى تمارسها المنظمات الأجنبية، التى عادة ما تكون بمثابة أذرع لأطراف خارجية.
الموقف الإسرائيلى الغاضب له دوافع عدة، أولها أن موقف موسكو الرافض منح تأشيرات دخول لوفد قانونى إسرائيلى لتسوية القضية مع الحكومة الروسية يؤشر إلى أن العلاقات الثنائية معرضة لتغير كبير قد يُفقد تل أبيب الكثير من المزايا وحرية الحركة فى سوريا وفقاً لتفاهمات سابقة، توفر للطائرات الإسرائيلية القيام بغارات وضربات صاروخية فى الداخل السورى بدون أية اعتراضات روسية جدية، رغم توافر منظومات إس 300 المضادة للصواريخ والطائرات، والتى تُسيّرها موسكو فى الداخل السورى.
وثانيها أن إغلاق الوكالة وأية منظمات يهودية أخرى بقرار من المحكمة سيؤدى حتماً إلى إغلاق باب جذب المهارات والعقول الروسية إلى إسرائيل تحت مظلة سياسة الهجرة لمن يرغب. والسائد فى الإعلام الإسرائيلى أن هناك ما يقرب من 500 إلى 600 ألف روسى يهودى يمكن أن يكونوا هدفاً للهجرة، وهو ما سيكون صعباً فى حال إغلاق الوكالة اليهودية وأخواتها الأصغر. بيد أن الوكالة نفسها تعتبر الإغلاق القانونى لأنشطتها فى الداخل الروسى لن يوقف مساعيها لجذب العقول الروسية اليهودية، وتعد نفسها للعمل من داخل إسرائيل عبر منصة إلكترونية، وقد تواجه صعوبات وفق هذه الصيغة بشأن التواصل مع كبار السن، لكن الأمر سيكون أسهل مع العناصر الشابة حسب تصريحات مسئوليها، دون إغفال أن نفوذ الوكالة كامتداد للحركة الصهيونية فى الداخل الروسى سيتعرض للاختفاء تدريجياً.
وثالثاً أن ثمة شعوراً لدى قطاع من الساسة الإسرائيليين، منهم رئيس الوزراء الحالى لابيد، بأن الدائرة المحيطة بالرئيس بوتين تحمل توجهات سلبية ومعادية للسامية، وتسعى إلى محاصرة النفوذ الإسرائيلى فى الداخل الروسى حتى قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية بكثير، وهو ما يمثل لدى هؤلاء نذير خطر يتجاوز الانزلاق إلى حالة توتر مزمنة. ولعل هذا الشعور يفسر جراءة التصريحات والتهديدات التى قالها لابيد، وإعلانه عن تكليف بعض الخبراء لإعداد إجراءت للرد على موسكو فى حال تم إغلاق الوكالة، ما يمثل نوعاً من التحدى السافر لروسيا.
توجُّه لابيد للتحدى السافر لموسكو يواجه بعض الاعتراض من سياسيين فى الليكود المعارض حالياً، والذى يُعد نفسه للعودة مرة أخرى للحكم فى الانتخابات المقررة فى نوفمبر المقبل، وجوهر الاعتراض أن سياسة التحدى لن تفيد وستضر حتماً، والبديل هو احتواء تلك المشكلة عبر تسويات قانونية وسياسية معاً، والحفاظ على كل المزايا التى توفرها موسكو لإسرائيل فى سوريا، مع مراعاة تطورات الحرب فى أوكرانيا، والأهم التعامل بحذر مع الرئيس بوتين وتجنب إغضابه والحرص على عدم توجيه أى إهانة، سواء صراحة أو ضمناً. وهى اعتراضات تعكس أسلوب الليكود فى كسب ود الرئيس بوتين كما جرى فى سنوات العقد المنصرم.
حالة التوتر بين تل أبيب وموسكو على النحو المشار إليه لها مسارات عدة محتملة، أولها ارتفاع مستوى التوتر والدخول فى عملية عض أصابع قوية، قد تشهد قرارات روسية حادة تجاه العديد من التصرفات الإسرائيلية تجاه سوريا وإيران، كما قد تشهد أيضاً تحولاً فى الموقف الإسرائيلى إلى نوع من الدعم الصريح لأوكرانيا، بما فى ذلك تزويد كييف ببعض الأنظمة الصاروخية والطائرات المسيّرة التى قد تسبب إزعاجاً للقوات الروسية.
النقيض من ذلك أن يتجه الطرفان إلى فتح حوار حول أنشطة الوكالة اليهودية وأخواتها فى الداخل الروسى، وتسوية الوضع القانونى دون الوصول إلى حد الإغلاق، وفى هذه الحالة يُسمح للوكالة بالعمل مع ضمانات ألا تتجاوز حدوداً معينة يشملها القانون الروسى، على أن توضع ضوابط للنشاط الحربى الإسرائيلى فى الداخل السورى تراعى المصالح الروسية بشكل عام، وأبرز عناصره عدم تهديد الحكومة السورية، والتوقف عن مهاجمة المواقع القريبة من القواعد الروسية فى سوريا، مع حل مشكلة تسلم روسيا كنيسة الإسكندر «نيفسكى» فى القدس.
فى الحالتين نلاحظ أن الوضع فى سوريا يمثل مشكلة للطرفين، وهو نفسه أحد العناصر الرئيسية فى بلورة درجة من المصالح التى تدفع الطرفين إلى تسوية ما بينهما من خلافات. والواضح أن روسيا الآن، ونظراً لضغوط الحرب فى أوكرانيا، التى تحولت إلى حرب استنزاف بفعل التدخلات الأمريكية والأوروبية المباشرة فى الحرب، والتى يبدو أنها سوف تستمر لأشهر عدة مقبلة، فى غنى عن أن تدفع طرفاً ما يمارس بعض الحياد الخادع إلى أن يصبح عدواً صريحاً وإضافة إلى أوكرانيا. الإجراءات القانونية فى بدايتها، المتمثلة فى جلسة استماع أولية، ما يوفر مساحة لضبط التوتر وعدم الانجرار إلى أزمة مفتوحة.