بقلم : د. حسن أبوطالب
ثمة تغيير سياسي في الأفق السوداني، لم تتحدد ملامحه بعد، ومطروحة عدة رؤى، لكل منها تصور ضمني لما يجب أن يكون عليه السودان بعيداً عن حال فوضى لا قدر الله، أو خروج أقاليم متوترة عن مظلة الدولة السودانية، أو فراغ سلطة في إقليم أو أكثر يجذب بقايا تنظيم «داعش» المهزوم في سوريا والعراق. ويظل السؤال المركزي: من سيقود التغيير؟ وما آلياته؟ ومَن سيتجاوب معه؟ أسئلة مطروحة بقوة، ومعها اجتهادات عديدة ومتباينة.
في خطاب الرئيس البشير قبل أربعة أيام حدد آلية التغيير في إجراء حوار وطني يستند إلى مبادئ «الوثيقة الوطنية للحوار الوطني» الموقَّعة في عام 2016، تحت إشِراف الرئيس نفسه، متعهداً بأن يكون على مسافة واحدة من كل القوى، مواليةً أو معارضةً، داعياً قوى الشباب لأن تكون طرفاً محاوراً رئيسياً في هذا الحوار الذي يمتد لمدة عام، فُرضت فيه حالة الطوارئ. وفي الخطاب ذاته أُلغيت حكومة الوفاق الوطني وحكومات الولايات، واستبدل بها قادة عسكريون ومن جهازي الأمن والشرطة لإدارة شؤون البلاد طوال العام المحدد. وفي هذه الرؤية سيبقى الرئيس البشير رمزاً سيادياً، ومسؤولاً عن عملية التغيير التي سيتفق عليها المتحاورون الذين سيقبلون تلك الصيغة، والتي تضمنت أيضاً تأجيل النظر في التعديلات الدستورية المقترحة والتي كانت تتيح للرئيس البشير الترشح لفترة رئاسية جديدة في 2020، بما يعني إتاحة الفرصة لاقتراحات جديدة لتجاوز الأزمة التي يمر بها السودان، حسب قول الرئيس.
ويُذكر هنا أن وثيقة الحوار الوطني هي حصيلة حوار بين الحزب الحاكم وبعض الأحزاب الصغيرة وعدد من الشخصيات العامة لمدة عام كامل، وتضمنت عدداً من المبادئ حول تعزيز الحريات والمواطنة وتحسين المعيشة ومواجهة أوجه القصور، أما نظام الحكم فتحدد في صيغة فيدرالية، وفي الآن نفسه أن يكون النظام رئاسياً حيث يتم اختيار الرئيس عبر الانتخابات العامة.
هذه الرؤية الرئاسية ليست الوحيدة المطروحة، هناك رؤيتان أخريان لكل منهما أساس حزبي وشعبي يُعتدّ به. الأولى ما تضمنته «وثيقة الحرية والتغيير» الصادرة عن قوى الحراك الشعبي بقيادة «تجمع المهنيين السودانيين»، وهي قيادة تظل سرية وتتكون من قيادات نقابية لعدة مهن كالمهندسين والأطباء والصحافيين وغيرهم، موازيةً للقيادات النقابية الرسمية. والفكرة الحاكمة لـ«وثيقة الحرية والتغيير» هي تنحي الرئيس، وفترة انتقالية لمدة أربع سنوات تقودها حكومة من كفاءات وطنية تتوافق عليها جميع أطياف الشعب السوداني، تضطلع بعدة مهام أبرزها: إعادة النازحين وتعويض المتضررين، ووقف التدهور الاقتصادي وتحسين حياة المواطنين، وإدارة علاقات السودان الخارجية باستقلالية ووفقا للمصالح المشتركة، وإقامة مؤتمر دستوري بنهاية الفترة الانتقالية لتحديد كيف يُحكم السودان.
الرؤية الأخرى صاغتها عدة أحزاب تشارك منذ ثلاث سنوات في تكتل يُعرف باسم «نداء السودان» بزعامة الصادق المهدي، ومعها حركات مسلحة تنشط ضد الحكومة السودانية في أقاليم النيل الأزرق، وجنوب كردفان ودارفور، دخلت في حوار مع الحكومة في السنوات الثلاث الماضية. وتتضمن تغيير النظام السياسي من خلال حوار مباشر مع الحزب الوطني الحاكم يؤدي إلى تسوية سياسية تتضمن تشكيل حكومة انتقالية تعمل على حل المشكلات السياسية والاقتصادية والأمنية لفترة زمنية غير محددة. وهو ما تعارضه مجموعة سياسية أخرى تعرِّف نفسها بقوى «الإجماع الوطني» لا تقبل بأقل من تغيير النظام جذرياً.
وهناك أفكار ووثائق أخرى عديدة صدرت عن أحزاب وتجمعات، وتنادي أيضاً بالتغيير. ويلاحَظ هنا ما يلي:
أولاً، أن وثيقة الحوار الوطني الصادرة منذ عامين ونصف العام ورغم ما فيها من مبادئ لا خلاف عليها، لكنها لم تطبَّق على أرض الواقع، وهو ما يستند إليه الرافضون للرؤية الرئاسية باعتبارها إعادة تدوير لأفكار بهدف استمرار النظام والسيطرة على حركة المعارضة وتفريغ الحراك الشعبي من الزخم الذي سار عليه في الشهرين الماضيين.
ثانياً، أن جميع الرؤى المُطالبة بالتغيير الجذري ومع اختلاف مصادرها الحزبية والشعبية تنادي بتشكيل حكومة انتقالية من الكفاءات الوطنية، وعبر توافق وطني لإدارة شؤون البلاد في فترة انتقالية حددها البعض بأربع سنوات وتجاهل آخرون مدتها الزمنية. وبينما طالبت رؤية «الحرية والتغيير» بأن تكون هذه الحكومة بعد سقوط النظام، رأتها مجموعة «نداء السودان» كنتيجة لتسوية سياسية يشارك فيها الحزب الوطني الحاكم.
ثالثاً، أن الطرح الرئاسي تضمّن أيضاً حكومة انتقالية ولكن وفق صيغة يقودها قادة عسكريون وأمنيون في ظل الطوارئ ولمدة عام، ويُفهم من سياق خطاب الرئيس البشير أن المهمة الأولى لهذه الحكومة هي فرض الانضباط في الشارع السوداني واتخاذ بعض الإجراءات لمواجهة الأزمة الاقتصادية. وذلك باعتبار أن صيغة التغيير ستكون محل حوار مع القوى السياسية، الأمر الذي اعتبرته قوى التغيير انتكاسة سياسية كبرى لن يقبل بها الشارع.
وفي ضوء هذه الملاحظات الثلاث تتجسد مساحة تباعد وافتراق مؤهَّلة للمزيد، ومؤهَّلة أيضاً للصدام، ونظراً إلى أن قادة الولايات وأعضاء الحكومة الجدد من القادة العسكريين والأمنيين، فإنه من المرجح أن يحدث صدام مباشر بين الجيش والشرطة وبين عموم السودانيين المؤمنين بأن النظام الحالي قد استنفد كل فرص البقاء سلمياً، وليس من سبيل إلا التغيير عبر الصدام السلمي المباشر، خصوصاً أن قوى الحراك الشعبي تعتقد، حسب أدبياتها، أن الاستفادة من تجارب التغيير الشعبي في كلٍّ من تونس ومصر 2011 تصبّ في عدة مسارات متكاملة؛ أبرزها: عدم ترك الشارع إلا بعد تحقيق الهدف المركزي، أي تغيير بنية السلطة وتغيير جذري للأحزاب الموالية لها. والتمسك بالسلمية كإطار لحركة الشارع وتجنب التورط في مواجهات عنيفة أو استخدام السلاح. والمسار الثالث عدم الاطمئنان لوعود السلطة القائمة. والرابع، أن تتسلم قوى التغيير السلطة مباشرةً ومن دون وسيط. والخامس، إبعاد القوى السياسية التي استفادت من النظام القديم عن إدارة المرحلة الجديدة. والسادس، الرهان على دور للقوات المسلحة يناصر المطالب الشعبية. والسابع، الاستعداد ببرنامج عمل مفصل لما يجب عمله في اليوم التالي لانتهاء النظام السابق. والثامن، البقاء على حركة الشارع مشتعلة كداعم رئيسي للتغيير الجذري.
هذه المسارات الثمانية لا تعني إطلاقاً أن الأمور لن تخلو من مواجهات محتملة أو صراعات قد تمتد لسنوات، ولذا تظل القدرة على التغيير مرهونة بمدى تأييد مؤسسات رئيسية في أي دولة لحركة الشارع ومطالبه، وهي تحديداً: القوات المسلحة، والشرطة، والمخابرات، والقضاء، والعدل. وحتى اللحظة الجارية لا توجد مؤشرات على تغييرات كبرى في حركة تلك المؤسسات الرئيسية. والأمر برمّته سيتوقف على ردود الفعل الشعبية في الأيام المقبلة، ومدى التفاعل رفضاً أو قبولاً لرؤية القيادة السياسية للتغيير، ومدى التمسك بالتغيير الجذري الحالي والتضحية من أجله.
نقلا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع