بقلم : د. حسن أبوطالب
من القواعد المتعارَف عليها فى فن المفاوضات، أن يكون هناك قدر من الثقة بأن المفاوضات سوف تحل كل، أو جزءاً كبيراً من، المشكلات المعلقة، والتوصل إلى صيغة مقبولة من الطرفين. والقاعدة الثانية تتعلق بالالتزام نصاً وروحاً بما يتم التوصّل إليه وتطبيق متبادل للالتزامات والتعهدات وفق الجدول الزمنى الوارد فى الاتفاق أو المعاهدة. كلا الأمرين، الثقة والالتزام، هما اللذان يحددان نجاح التفاوض من عدمه.
فى العالم الواقعى اختلاف تام عن تلك القواعد التى تظل مرجعاً للتقييم ولفهم أسباب التراجعات التى تحدث، سواء أثناء التفاوض أو بعد التوصّل إلى اتفاق معين. فمبدأ الثقة المتبادلة لا يأتى من فراغ، بل يأتى من وقائع عملية محسوسة يمكن التحقّق منها، أما الحديث فى المطلق عن بدء حالة ثقة بين الطرفين المتصارعين أو المتنافسين، ودون دليل مادى، فنكون أمام حالة تفاوض «تليفزيونية» دعائية هى المقصودة فى حد ذاتها، وليس بناء ثقة متبادلة، كما يفترض التفاوض الحق.
إذا حاولنا أن نراجع عملية التفاوض الظاهرية والأولية عن بُعد والجارية الآن بين كل من الولايات المتحدة وكوريا الشمالية فى ضوء القاعدتين المُشار إليهما، سوف نجد غياباً تاماً لمبدأ الثقة، مقابل حرص مبالغ فيه من قِبَل الرئيس ترامب على عقد القمة فى حد ذاتها، وهو حرص يمكن تفسيره فى ضوء شخصية ترامب الساعية إلى إثبات القدرة على اختراق المشكلات الصعبة وعقد الصفقات مهما كانت معقّدة. فى المقابل نجد حرصاً مشابهاً من قِبَل الزعيم كيم جونج، لكنه أقل من حيث الدرجة، ويمكن تفسيره فى ضوء الرّغبة فى فتح ثغرة فى العلاقات مع واشنطن، وفى الآن نفسه مراعاة ضغوط ورغبات كل من الصين بدرجة أولى، ثم روسيا بدرجة ثانية، وهما اللتان تُعدان صمام الأمان بالنسبة لنظام كوريا الشمالية فى مواجهة الغطرسة الأمريكية.
عامل الثقة فى الحالة الأمريكية - الكورية الشمالية يبدو مشوشاً إلى حد كبير، وأسس بناء الثقة نفسها ليست واضحة بما فيه الكفاية. والمواقف المعلنة من الطرفين تختلط فيها الأمانى بالشكوك، وتمتزج فيها الرغبات القصوى لكل طرف مع الإيحاء بأن نهاية الأمور ليست مضمونة بعد. وهو ما يتضح فى غياب النموذج الذى يتم التفاوض عليه، أو الخلاصة التى يرغب الطرفان فى الوصول إليها. وفى هذا السياق بات معروفاً أن إدارة «ترامب» لم تحسم أمرها بعد فى مرحلة ما بعد إزالة الإمكانات النووية لكوريا الشمالية، وكذلك لم تحسم أمرها بعد فى مرحلة الإزالة نفسها إذا اتُّفق على ذلك. ما زال الأمر محصوراً فى أن تقوم بيونج يانج بالانصياع التام للأوامر الأمريكية، ثم بعد ذلك قد تتفضل الولايات المتحدة ببعض الخطوات غير المحددة تماماً. تعبير النموذج الليبى الذى استخدمه جون بولتون مستشار الأمن القومى للرئيس ترامب يعنى ببساطة أن تقدم كوريا الشمالية كل ما لديها على طبق من فضة للطرف الأمريكى دون أى ضمانات أو تعهدات، نوع من الانتصار الساحق الماحق على طرف لا يملك لنفسه شيئاً. وهو الأمر الذى أغضب كيم جونج ودعاه إلى إلغاء القمة المرتقبة، ثم تلاه بيان الإلغاء لترامب يوم الأربعاء، وبعدها بيوم تم التراجع عن إلغاء القمة، نتيجة جهود قامت بها كوريا الجنوبية لإزالة اللبس وسوء التفاهم. وهنا نلاحظ أن دور رئيس كوريا الجنوبية مون جيه يُعد أساسياً فى أىّ تطور مستقبلى بين واشنطن وبيونج يانج، لكنه ليس حاسماً.
بعض تقارير الصحافة الأمريكية التى تتابع القمة المرجّحة، وفى الآن نفسه غير المؤكدة فى سنغافورة، تكشف عن تباين بين رؤيتى بومبيو وزير الخارجية، وبولتون مستشار الأمن القومى، فالأول يجنح إلى تقديم ضمانات واضحة لكوريا الشمالية بعد أن تتخلص من أسلحتها النووية، أهمها الوعد بإنهاء حالة العداء ورفع كوريا الشمالية من لائحة الدول راعية الإرهاب، وبما يسمح لها بالحصول على مساعدات إنسانية من دول أخرى غير الولايات المتحدة كالصين وروسيا. أما موضوع إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين فيظل غامضاً تماماً، مع رفض كامل لأى ربط بين إزالة الأسلحة النووية لكوريا الشمالية، والوجود العسكرى الأمريكى فى كوريا الجنوبية، وهو ما تطالب به بيونج يانج.
ومن مراجعة التغريدات التى يشتهر بها الرئيس ترامب سنجد أن كل ما يعد به هو نوع من الحديث غير المحدّد، مفردات لا تقدّم ولا تؤخر، أبرزها وعود بتحسّن حالة الاقتصاد الكورى الشمالى، وضمنا عدم المس بنظام كيم جونج أون، وبما يعنى أن المقايضة المطروحة من وجهة نظر ترامب لا تخرج عن صيغة تتضمن تنازلاً كاملاً من كوريا الشمالية عن أسلحتها النووية وتدمير كامل معرفتها النووية، مقابل غض الطرف عن طبيعة النظام فى بيونج يانج، وربما بعض الاستثمارات الأمريكية فى مجالات استهلاكية لا تغنى ولا تثمن. هى صيغة قريبة من النموذج الليبى، إن لم تكن من حيث الجوهر والمعنى. وفى ما يتعلق بعامل الالتزام، فثمة مشكلة كبرى، فنجاح أى تفاوض ليس فى الوصول إلى وثيقة تُحدّد الالتزامات المتبادلة والمكاسب التى حصل عليها كل طرف، والأثمان التى يجب دفعها، بل فى تطبيق كل هذه البنود، وفقاً لجدولها الزمنى المتّفق عليه. وهنا تبدو أمريكا مثالاً للتراجع والاستخفاف بما تم التوصّل إليه والضرب بعرض الحائط كل ما تم تحقيقه، ولديها دائماً أعذار وأوهام ومطالب جديدة لا حدود لها، وحالة الانسحاب من الاتفاق النووى الإيرانى ومن قبل معاهدة باريس لحماية المناخ والانسحاب من معاهدة الشراكة والتبادل التجارى الحر بين دول الباسيفيك والضرب بعرض الحائط معايير منظمة التجارة الحرة، وغير ذلك كثير، مما يجعل «اللا التزام» الأمريكى هو الأساس، وبما يضع شكوكاً أمام أى طرف آخر يريد أن يتوصّل إلى اتفاق كبير يعالج قضايا حساسة كما هو الحال بالنسبة لكوريا الشمالية.
على أى حال هناك مجال لحدوث اختراقات جزئية قد يصل إليها الوفد الأمريكى الذى ذهب إلى بيونج يانج لغرض الإعداد لقمة سنغافورة مطلع هذا الأسبوع، وإن حدث هذا الاختراق المفاجئ، قد تحدث القمة، لكن حالة الشك فى أن تفتح مرحلة جديدة للسلام الشامل فى شبه الجزيرة الكورية ستظل موجودة، إلى أن تصبح أمريكا دولة قائدة تلتزم بتعهداتها ولا تتلاعب بما توقع عليه.
نقلًا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع