بقلم : د. حسن أبوطالب
ذات صباح وأثناء مراجعة الرسائل الإلكترونية وجدت تنبيهاً بأن الجهة التى سوف أسافر إليها فى فترة معينة سوف تشهد تغيرات مناخية وعلىّ أن أتخذ الاحتياطات اللازمة، كما شمل التنبيه معلومات مفصلة عن رحلتى بالطائرة ذهاباً وعودة، وعن جهة الإقامة وكيفية الوصول إليها من المطار وبعض نصائح أخرى، بل الأكثر من ذلك فقد تمت إضافة هذه البيانات فى التقويم الخاص بى على هاتفى المحمول، ولوهلة شعرت بالدهشة وسألت نفسى من لديه كل هذه المعلومات ذات الطابع الشخصى، التى لا تعرفها سوى شركة الطيران والجهة التى سوف أسافر إليها ومزجها مع بعض بيانات، فى الواقع مفيدة كالطقس ووسائل المواصلات والعنوان المقصود تحديداً، ثم أعاد إرسالها عبر البريد الإلكترونى، وبعد فحص دقيق وجدت فى أسفل التنبيه وبخط صغير عبارة تفيد أن هذه المعلومات تمت معرفة مصدرها من خلال المراسلات التى تمت بينى وبين شركة الطيران والجهة مقصد السفر، وأنها بيانات استخرجت بواسطة أحد التطبيقات الإضافية فى برنامج البريد الإلكترونى التى وافقت عليها عند إنشاء الحساب، مع التأكيد أن هذه البيانات لن تمرر إلى أى جهة أخرى إلا بموافقتى المسبقة.
بعد بحث فى الأمر وجدت أن الشركات الكبرى التى تملك وتطور برامج التشغيل للهواتف المحمولة الذكية تعمل بطريقة جديدة تماماً، ملخصها أنها جعلت كل تطبيق فرعى فى برنامج التشغيل الأصلى كأنه تطبيق قائم بذاته، ولكى يتم تشغيله على المستخدم أن يسمح لهذا التطبيق الفرعى أن يحصل على كل المعلومات الشخصية الموجودة على الهاتف المحمول، وأن يطلع على قائمة الاتصالات والصور وعلى رسائل البريد الإلكترونى والبرامج الأخرى التى تم تشغيلها فى الجهاز لاسيما تطبيقات الدردشة، ومواقع تحركاتك التى يرصدها تطبيق الرصد الجغرافى للأماكن، وأن تسمح بوصول الإعلانات إلى هاتفك، وفى حال رفض الأمر لا يتم تشغيل التطبيق، وفى النهاية ليس أمامك سوى أن تسمح بمقايضة كل بياناتك الشخصية لكى تحصل على خدمة التطبيقات التى باتت ضرورية فى حياتنا اليومية.
هذا الواقع الجديد الذى نقبله تحت ضغط الضرورة يعنى أن فكرة الخصوصية الفردية لم تعد موجودة فى الواقع، وأن هناك شركات عملاقة وليست حكومات، تعرف عنك كل الأشياء، التى تتصور أنت أنها محفوظة فى سرداب سحيق لا يطلع عليها سوى شخصك الكريم، وقد نبهنى أحد المتخصصين إلى أن هناك تطبيقات ذات طابع ترفيهى شكلاً ولكنها تحصل منك على بياناتك الشخصية وتقوم بتمريرها إلى جهة ثالثة للاستفادة منها بشكل أو بآخر وبدون علم شخصك الكريم، وهى تطبيقات أقرب إلى التجسس الصناعى والتجارى، مثل تطبيق انتشر فى الآونة الأخيرة على إحدى شبكات التواصل الاجتماعى ذائعة الصيت، يطلب منك بعض البيانات بما فى ذلك صور حديثة للوجه والهوايات الشخصية وطبيعة المهنة التى تؤديها والسيرة الطبية والصحية، لكى يساعدك على معرفة كيف سيكون حالك وملامح وجهك بعد سن التقاعد أو أكثر قليلاً، والمثير هنا أن هذه المعلومات ذات الطابع البيولوجى باتت تستخدم فى التعرف على طبيعة الأمراض التى تنتشر فى بيئات معينة ومن ثم وضع استراتيجيات التعامل معها من قبل شركات صناعة الأدوية وهكذا، بعبارة أخرى لقد قدم المستخدمون بياناتهم طواعية لصالح شركات قامت بتوظيفها لصنع أجهزة أو سلع بعينها أو للتأثير على توجهاتك فى قضايا عديدة دون أن تدرى، وهذه هى الفكرة الأساسية التى يتصاعد الحديث بشأنها فى الولايات المتحدة الآن بشأن تسريب عمدى لبيانات خمسين مليون أمريكى لهم حق الانتخاب من أصحاب الحسابات الشخصية فى الفيس بوك، إلى طرف ثالث وهو شركة متخصصة فى تحليل المعلومات لغرض بناء استراتيجيات توجه السلوك الجماعى على نحو معين، وتدعى «كمبريدج أناليتيكا»، التى تبين أنها وظفت هذه البيانات الشخصية بما فى ذلك محتوى الدردشات والأفكار والتعليقات للخمسين مليون أمريكى من أجل مساعدة حملة الرئيس ترامب أثناء الانتخابات على صياغة استراتيجية تأثير فى القناعات الجماعية تسمح للمرشح ترامب بالفوز.
حالنا الآن كأفراد هو كمن يصارع وحشاً كبيراً لا نعرف سوى القشور عن طبيعة تحركه وكيف سيوجه الضربة التالية، الوحش الكبير هذا هو شركات المعلومات والإعلانات التى تسيطر على شبكة الإنترنت ولا يمكن لنا أن نتخلى عن التطبيقات والبرامج المجانية التى تطورها ولم يعد أمامنا سوى استخدامها وفقاً للشروط التى تضعها تلك الشركات، وهنا يبرز أحد أبرز جوانب المشكلة أنه لا يوجد تشريعات وطنية تضبط أداء مثل هذه الشركات، التى تحولت إلى كائن عملاق لا يعترف بسيادة الدول ولا قوانينها، وهو الذى يصنع الضوابط الخاصة به دون الرجوع إلى المجتمع أو المؤسسات المنوط بها إدارة حركة المجتمع ككل.
والحقيقة أن ما تقدمه هذه الشركات من تطبيقات ذات طابع مجانى فى أغلبها لم يعد من الممكن تجاهلها أو التخلى عنها، لقد أصبحت أسلوب حياة فردية وجماعية على السواء وعلى مستوى العالم كله، ناهيك عن أن أسلوب عمل هذه الشركات لا يعرف تقنياته سوى الخبراء الكبار فى علوم البرمجة، وهؤلاء أيضاً يرون أن لهم الحق المطلق فى توظيف تلك المهارات العلمية الفائقة من أجل تحقيق أكبر المكاسب الممكنة لشركتهم التى يعملون بها ولأنفسهم أيضاً، ولذا فإن أى دعوة من قبل سياسيين أو برلمانيين لتقنين أو وضع ضوابط على حركة هذه الشركات العملاقة لن يكتب لها النجاح إلا فى حال توافر شرطين أساسيين؛ الأول أن يكون هذا التقنين عملاً دولياً وتحت رعاية الأمم المتحدة، أو على الأقل إقليمياً، أى فى نطاق إقليمى معين تتوافق دوله على مثل هذه الضوابط وتحرص على تطبيقها بكل جدية ممكنة، وهو ما يولد ضغطاً على تلك الشركات لتقبل هذه الضوابط، والثانى أن يكون هناك متخصصون فى مثل هذه التقنيات يؤمنون بأن ترك الأمور على حالها سوف يؤدى إلى كوارث مجتمعية كبرى بدأت تظهر بعض ملامحها، وأن يسهموا بخبراتهم التقنية فى وضع الضوابط التى يصوغها القانونيون بدقة متناهية، وبحيث تحافظ على عمل هذه الشركات، ولكن بدون تجاوز حقوق الأفراد وحماية خصوصياتهم وحماية حقوق المجتمع والمؤسسات فى الآن نفسه، وبدون هذين الشرطين فإن أى حديث عن منع الأفراد من إنشاء صفحات شخصية فى شبكات التواصل الاجتماعى، كما يتصور البعض فى مصر الآن، يُعد هو والعبث سواء.
نقلاً عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع